يقال إن التروما تحمل تاريخاً مستحيلاً داخلها، أو تصبح نفسها عَرَضاً لتاريخ لا يمكن لمن عاشه امتلاكه بالكامل. ما الذي يمكن نسيانه؟ وما الذي يجب تذكّره؟ ما يمكن تداركه أو الانتقام منه؟ غالباً ما يفكّر المرء في هذه الأسئلة لدى استعادة ماضيه، خصوصاً إن كان ماضياً يعيش ويستمر بقوة الصدمة، سواء كانت صدمة فرد أو جيل تشارك الزمان والمكان في لحظة شديدة العنف. تأخذ الصحافية المصرية رشا عزب قطعة كبيرة من الذاكرة الصعبة تلك وتوزّعها على 17 شخصية تقاطعت يوماً ما، في ثورة ما. لكننا نراها، بعدما انتهى كل شيء و«تحول الانتصار إلى هزيمة». لذلك تغيّب تفاصيل كثيرة عمداً ولا تكتمل القصص أو لا تقال كلها، إنما يمكننا أن نخمن خلفياتها. تفعل الكاتبة ذلك في باكورتها الروائية «قلب مالح» (الكتب خان) التي صدرت أخيراً، بينما تواجه صاحبتها اليوم السبت القضاء المصري في محاكمة سريعة بتهمة «سبّ وقذف» المخرج إسلام العزازي، على خلفيّة شهادات نساء يتّهمنه بالاغتصاب والتحرش.
نقابل أُناس «قلب مالح» بينما يحاولون مواصلة العيش. يجرّبون الطرق المعتادة للهرب والنسيان. خمسة فصول تعنونها الكاتبة بـ «الحافة»، «الشاطئ»، «القلب»، «الضفاف» و«الجذور». تضع تحت كل فصل أقساماً صغيرة يحمل كل منها اسم شخصية من الشخصيات، إما تتحدث عن نفسها أو ثمّة صوت يتحدث عنها. نقرأ عن أمجد يمامة الذي يقرر السفر إلى إسطنبول، بينما ترفض سلمى نجيب الهجرة مع حبيبها بلال. ألفريد جاكوب يقرر البقاء. وصال معتوق مهاجرة يعيدها الحنين في رحلات متقطّعة. ولاء الخواجة في إيطاليا. بستان الشاهد تحب البحر في الإسكندرية وتكره النيل في القاهرة، وباقر أمان الله يهاجر مع السوريين عبر الحدود إلى ألمانيا. فوزي مصباح يهرب إلى فرصة عمل في الإمارات... صحافيون وباحثون وأكاديميون، مسلمون وأقباط، عشاق وأزواج ومثليون، مقيمون ومبعدون، يجمعهم سؤال الهجرة أم البقاء أو حتى العودة. الاستمرار في علاقاتهم العاطفية المهشّمة وصداقاتهم المضطربة أم التخلي عنها، الزواج أو الإنجاب أم لا، وأي صيغة ممكنة للخلاص، الفردي طبعاً.
تعرض عزب بالتزامن أصواتاً يرتبط بعضُها ببعض لكن متشظّية. ربما اختارت الكتابة على هذا النحو كطريقة هيكلية لتأكيد الروايات المتعددة للمصير نفسه أو حتى التشكيك فيها. وقد يكون عجزاً عن إعادة تصور المهزومين جماعةً متماسكةً من جديد أو تعطّل الذاكرة القادرة على استعادة ذلك. ليس ثمة سرد خطّي لقصة من أولها إلى آخرها، بل بنية تلتقي فيها مجموعة من الخطوط وتدخل في علاقة لا يمكن تسمية أي منها أساسياً أو ثانوياً. المشكلة الأساسية للبنية السردية لـ «قلب مالح» هي اختيار الرواة، فلماذا تمّ تكليف بعض الشخصيات وليس غيرها بوظيفة السرد؟ قرار تعددية الرواة والتنقل بين السرد بضميرَي المتكلم والغائب يقتضي بالضرورة أن تكتسب الشخصيات أصواتها الخاصة وأن يظهر ذلك في اللغة نفسها، وتصل إلى القارئ مسؤولية الشخصيات الراوية التمثيلية والوظيفية في السرد، لكنّ هذا لم يتحقق. إلا إن كان مقصوداً أن يصل إلى القارئ هذا الشبه الكبير بين «أبطال» الرواية، شبه أبناء الجيل والثورة والصدمة الواحدة.
لا يمتد الزمن عند عزب، بل يتقطّع، وتعبّر عن فجواتٍ فيه، أحياناً عبر تدوين التاريخ تحت بورتريهات مرسومة لكل شخصية توحي بأنها حقيقية (أنجزتها دعاء العدل)، إذ تتغير هذه التواريخ بلا تسلسل من عام 2014 إلى عام 2018، أو عبر التنقل في فلاش باك غير مكتمل، والتصرف في ذاكرة الشخصية نفسها، ثم الخروج منها لزمن غيرها.
على لسان ندى حاتم، تكتب عزب «لما تكون مضطر تعيد ترتيب حياتك عشان لحظة طارئة، هتفضل تحس إنك عايش طول الوقت على صدى اللحظة دي، إحنا هنفضل لإمتى عايشين في الصدى؟». ربما يكون هذا سؤال شخصيات الرواية كلها. بعد سنوات من الاضطرابات والعنف السياسي والتنكيل النفسي والجسدي، تبدو كما لو أن حياتها الأصلية سُحبت منها وحُشرت في حيوات أخرى ميتة ليست لها.