في تقصّيه المنهجي والعملي لمفهوم «خطاب الهامش»، شكّلت العشرية الثانية التي حملت «نسائم تغيير» عربي مادة دسمة للباحث اللبناني نادر سراج عبر حصيلة شعاراتية وافرة وظّفها في كتابه «صرخة الغضب» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) الذي ضمنه دراسة بلاغية في خطاب الانتفاضات العربية ولا سيما اللبنانية منها. «لم تعد تحت مجهرنا مجرد هتافات وكتابات ورسومات غرافيتية مبتكرة. بل باتت نصوصاً تضجّ بلاغة وتكتنز دلالة وتتكامل تركيباً، وتجد طريقاً سالكة نحو ميادين التوثيق والتحليل والدرس والنشر والتدريس. التداعيات التي أعقبت ما دُعي «الربيع العربيّ» وجدت رجعَ صدى ملحوظاً في المكوّن اللغوي، أهم عناصر الهوية والانتماء». حول كتابه الجديد ومفهوم خطاب الهامش واستئناسه للمزاج اللساني الجديد للأفراد والجماعات كأداة للاعتراض على الأنظمة الفاسدة كان هذا الحوار


كيف بدأت رحلتك في تقصّي خطاب الهامش ووضعه في مقابل خطاب المتن؟
مسوّغات تبادل الأدوار والسياقات بين المركز والأطراف، وتحليل تجلياتها ودرس مخرجاتها في الخطاب العربي المعاصر استوقفتني. ثنائية المتن والهامش التكاملية لا الضديّة، أثارت اهتمامي مذ تعرّفت إلى اللسانيات فرعاً دراسياً مستجداً. الانطلاقة الأولى من بيروت (1979-1981) حيث درست فونولوجيا إحدى لهجاتها المناطقية (المصيطبة)، وتوقفت عند أهم تحولاتها ورصدت كيفيات تلاؤمها في ضوء تقدّم العمران.

هل ساعدتك دراستك الأكاديمية في دراسة موضوع جديد على الأدبيات العربية على الأقل؟
على مقاعدِ جامعة «السوربون»، اكتشفتُ اللسانياتِ الاجتماعيةَ فدرستُها، ودرَّستُها، ومذاكَ باتت شُغليَ الشاغِل. أقدرتني مبادئها على فهمِ كيفيةِ تشكّلِ التنوّعاتِ والبدائل اللغوية الرائجة في طرائقِ التخاطب، وعلَّمتني أن وحدانيةَ المدلولِ وتعَدُّدَ دَوالِه لا يعيقُان صِحَّةَ التواصلِ. في ضوء تعاليمها، تفهّمت في الثمانينيات مسوّغات العواقب الدرامية للاختلاف الصوتي عند رجل الشارع مثلاً بين تلفّظي «بَنَدورة» اللبناني ومثيله «بَنْدورة» الفلسطيني، وتابعتُ شَغَفي بدراسةِ الملفوظ واليومي و«المعيوش»، لاستقراءِ الأمزجةِ وكشفِ الخطاباتِ المسكوتِ عنها.

كيف تقدم كتابك الجديد للقراء؟
في تقصّيه المنهجيّ والعمليّ لمفهوم «خطاب الهامش» وآليات اشتغاله، يتنزّل الكتاب في مجالَي تحليل خطاب الشعارات وتأصيل بلاغة جديدة. هذان الفرعان الدراسيان المتكاملان باتا معقد الارتقابات البحثية الجادّة عند أهل الاختصاص وأصحاب الرأي. والدليل أن المضامين (الهتافات والشعارات والمدونات و«البوستات» والكتابات الجداريّة) أظهرت أن ثمة أهميّة معقودة على هذا الخطاب لاستئناسه المراحَ الحيويّ للأفراد والجماعات، وما تحويه من معانٍ وإشارات ودلالات. والدارسون ما برحوا يفككون شفراته ويحللون منطوياته (نصوص احتجاجية، هتافات وأغان معدّلة وأهازيج وأمثال ونكات وتعليقات).
ولعل الشواهد المستقرأة في الكتاب تلمّح إلى أن هذا الضرب من الخطاب الذي يجمع بين مستويات الفصيح المأنوس والمحكي «المعيوش» بلبوس لساني بلاغي، ويتضافر مع روافد سابقة مثل «مصر الثورة وشعارات شبابها» و«الخطاب الاحتجاجي» اللبناني، لا يقلّ حضوراً وقيمة تعبيرية عن خطاب المركز، بل يمثّل رديفاً مهماً له بوصفه الخطاب الاجتماعيّ والثقافيّ السائد.

ركّزت في «صرخة الغضب» على ألفاظ الحياة العامة والمسكوكات اللغوية ولا سيما في تناول خطاب وأدبيات «الانتفاضة» اللبنانية. هلا شرحت هذه النقطة؟
التكوين اللساني أعانني على خوض تجربة رصد تجليات الهامش. فالتفت باكراً إلى منظومات الألفاظ والعبارات المأخوذة من لغة الحياة اليومية التي أهملها الباحثون. وَسَموها بالهامشية رغم حضورها العفوي ورواجها المستدام عند أهلها العارفين برقيّها التعبيري عن معالم عيشهم المتغيّر. سهولة تشفير المتلقين للمنظومات التعبيرية المعنية وانسيابيتها في سواقي كلامهم غذّتا الحصيلة الكلامية اليومية لهؤلاء، ويسّرتا لهم سبل الفهم والإفهام والتعامل مع الآخر. فشهدت العبارات الاصطلاحية والمسكوكات اللغوية انزياحات دلالية، ولاحقاً تقَوْمَسَت وتحوّلت إلى كنايات شعبية ومتلازمات لفظية بعدما استرعت انتباهتي العلمية. فسُلّطت عليها أضواء كاشفة، وتوقفت عند نماذج رائجة منها في خطابات المجال العام. كشفت عن معمياتها وشرحت منطوياتها بـ«العربي المشَبْرَح»، في معجم تأثيلي «العربية المحكية في لبنان: ألفاظ وعبارات من حياة الناس».

هل شكّل «الربيع العربي» مادة دسمة لتناول خطاب الهامش؟
حركات الاحتجاج الشعبي التي شهدتها ساحات المدن العربية منذ عام 2011 حفلت بحَراك تعبيري غاضب وعالي السقف والنبرة. واكبها تمرّدٌ شارعيّ تُرجمَ تمرّداً لغوياً على اللغة في صورها السلطوية المتعالية، أي الخشبية والفوقية والمتكلّسة. الغضب بات عنصراً محركاً، والشوارع المعترضة تحوّلت إلى فضاء بلاغي مترامٍ، وأضحت وسيطاً متاحاً ومباحاً للجمهور كل الجمهور.
جدران المدن العربية التي شكّلت تاريخياً أسواراً فاصلة للمستقرات الكبرى التي أقامها العرب منذ خرجوا من جزيرتهم، وتحوّلت إلى حامية وحاضنة للاجتماع الثقافي الاجتماعي، ما تأخّرت في لبوس دور مستجدّ إبلاغي وإشهاري. فالكتابات الجدرانية تحوّلت إلى نصّ مفتوح لنحوٍ شبابي الروح، جريء الطرح وبليغ التأثير والإقناع ولم تعد مجرّد «خربشة» لونية.

هل يمكن اعتبار «صرخة الغضب» دراسة مخبرية لنقل معاكس لخطاب الهامش إلى مراكز الأبحاث والأكاديميا التي عادة ما تجهل ما يحدث فعلياً خلف أسوار الجامعة؟
الخوض في غمار الهامش والمتن بروحية النقد والمساءلة أسعف في تسليط أضواء كاشفة على هذا الفرع المعرفيّ المستحدث. فاستجليت دلالاته السيّالة، بما في ذلك الالتفات إلى المكبوتات النفسيّة وصيغ البذاءة السوقيّة كالـ «هيلا هيلا» التي ترددت أصداؤها في الساحات، ووُظّفت أداةً للاعتراض ولمقاومة الأنظمة الفاسدة. بشواهد ومعاينات حقلية أظهرتُ أن استرفاد هذا الخطاب في سياقات ومنهجيات وسرديات علميّة يرتقي بـ«اليومي» و«المحكي» و«الملفوظ» إلى مستوى أكاديمي رفيع ويعلي قيمته البحثيّة إلى مراتب العناية والجدوى.
تجديدُ النظر إلى مثل هذه العناوين والمواضيع الشائكة والشائقة التي أُدرجت سابقاً ضمن الجزئيات والهوامش غير اللوامع، لا يستوي إلا باستكمال الأطر المعرفية والمنهجية، وتلك الإجرائية عند الباحث لجمع معطياتها ودراستها بعيون العلوم العصرية. أمر ييسّر للباحثين المهتمين بهذه الحقول «الخام» الانتقال النوعي من الاهتمام بالمادة اللغوية الحقلية المقصودة بالدرس بذاتها ولذاتها إلى معالجة طرائق تشكّلها وصيغ اشتغالها ووسائط تموضعها في نسيج لغة الضاد.

* يوقع نادر سراج كتابه يوم 11 آذار بين الساعة الرابعة والنصف والسادسة مساءً في جناح «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» ضمن «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب»


«صرخة الغضب» في الساحات المنتفضة
إنه الصراع الطويل في الثقافة العربية والإسلامية منذ تشكّل مؤسساتها الأولى الثقافية والدينية والاجتماعية بين ثقافة المركز المدجّجة بمنظومات كاملة تراوح بين إقامة الحد بالسوط والسيف وصولاً إلى القواميس واللغة والمجاميع اللغوية التي يصبح استعمالها فاشيّاً على حد قول رولان بارت، وتلبس في العصر الحديث لبوس الجرائد الرسمية ونشرات الأخبار ومناهج التعليم وغيرها من العدّة الإيديولوجية التي تسعى إلى تسويق خطاب «ثابت» لو استعرنا اللغة الأدونيسية.
ثقافة أزهر على ضفافها ما يكفي من «الآداب السلطانية» لترويض كل من يسعى في مخاطبة الحكام والملوك، إذ كما أورد الجاحظ «وليس لمن حدّث الملك أن يفسد ألفاظه وكلامه بأن يقول في حديثه: فاسمعْ منّي أو افْهم عنّي أو يا هذا أو ألا ترى. فإن هذا وما أشبهه عيٌّ من قائله وحشوٌ في كلامه»، في مقابل ثقافة مشاغبة «متحوّلة» استلهمت الباطن والهامش بدأت بأدبيات الفرق الصوفية والباطنية والهامشية في مقارعة الخطاب الرسمي، ولطالما استخدمت تقنيات الترميز والمواربة (كابن المقفع في «كليلة ودمنة») وصولاً إلى انفلاش أدبيات الأحزاب اليسارية والماركسية والإسلامية حديثاً في مواجهة خطاب البروباغندا للأنظمة العربية ومقارعته أحياناً بخطاب من القماشة ذاتها. إلا أن ما يستلهمه نادر سراج في كتابه «صرخة الغضب: دراسة بلاغية في خطاب الانتفاضة اللبنانية» (2022) هو ما تمخّض من خطاب الهامش في «الربيع العربي» أي الخطابات التي فاجأت الجميع في الساحات المنتفضة على حكامها ولم تستخدم (في أيامها الأولى على الأقل) الأدبيات الحزبية والعقائدية المألوفة، وإنما استلهمت الكثير من اللحم العاري للغة الشعب اليومية الحية. تشريح لخطاب كما يقول سراج «فيه غوص في البلاغة الجديدة التي ابتدعتها قوى التغيير عن طريق المشافهة – المتنافرة وغير المتجانسة لجهة تكوينها مثلما عن طريق الكتابات المفارِقة أو المغايرة لتوجّهات الرأي العام، فضلاً عن النصوص ذات الطابع الجدالي التي تنتج وتغذّي بالطبع حروباً وسِجالات كلامية، ومثلها الاستخدامات الموسومة بالهامشية أو الشعبوية، إضافةً إلى فنون الإبداع في الإعلانات التجارية، ناهيك بالأرغات argot أو اللهجات الخاصة، والبعض يسمّيها لغات سرّية، والأدب الطرائفي وسوى ذلك من وسائل الدعاية الاحتجاجية». في «صرخة الشعب»، يحمل سراج خطاب الشوارع إلى الأكاديميا في نقلة معاكسة لمحاولة فهم ما تقوله كرة اللهب الكبيرة في الشوارع العربية منذ أحرق بائع الخُضَر التونسي نفسه ثأراً للكرامة.