في يوم حزين من شباط (فبراير)، انطفأت شعلة جوزيف حرب (1944-2014)، الشاعر اللبناني المتوهّج ابن بلدة المعمارية الجنوبية في قضاء الزهراني بشعره الذي أقرب ما يكون إلى التراب «المشغول بقلوب» في «إسوارة العروس» التي غنّتها فيروز من كلماته، ضمن ريبرتوار طويل ضمّ إليه: «لما عالبال» و«أسامينا» و«زعلي طوّل انا وياك» و«لبيروت» و«معرفتي فيك» وغيرها. حساسية شعرية عالية لم تعترف بالحدود بين المحكية والفصحى، وكلام شحنه حرب بطاقته العالية على تلوينه بألوان السماء والأرض، ولا سيما تلك الجنوبية المفتوحة على الريح والحزن وأعياد الماضي البعيد. لغة حسية نستشفّها من عناوين مجموعاته مثل: «شيخ الغيم وعكّازه الريح» و«السيدة البيضاء في شهوتها الكحلية» و«سنونو تحت شمسية بنفسج»، و«دواة المسك» وغيرها من العناوين الرقيقة لمن كان ضمن الرعيل الأول ممن عُرفوا بـ «شعراء الجنوب» في سبعينيات القرن المنصرم. لم يأت جوزيف حرب بالخبز والورد إلى الشعر، وإنما حمل الشعر فرشاة يلون بها كل الأشياء، وخبزاً يحمله إلى مملكة الفقراء كي نردد مع مرسيل خليفة صدى نشيد الخبز والورد من كلماته: «لديك ما يكفيك من خبز ولكن ليس ما يكفي جميع الناس، والأرض ملأى بالسنابل انهض وناضل»، ونتلمّسها في كتابه الضخم «المحبرة» (دار الريس 2006) حيث وصلت مقدرته إلى صياغة النظرية الماركسية شعراً، ولخّص كامل تجربته الوجودية التي كانت تصدر منها إشارات إلى توق للرحيل كما في عنوان «طالع عبالي فلّ» (2007) أو في النفس الشجي لبعض مقاطعه النثرية التي اخترنا باقة منها في الذكرى الثامنة لرحيله كتحية للطائر المغرّد فوق شجرة الأكاسيا.تقديم واختيار: محمد ناصر الدين



جاء الحصاد
هو الموت يأتي جميلاً لأنّي تركت رغيفي لكم. أيها الموت، ماذا تبقّى لمائدة القبر مني؟ يدي؟ دخَلَت كلَّ أيدي الذين سيأتون. صوتي؟ يعيش بأصوات كل الذين سيأتون. قلبي؟ جنينٌ بأرحام كل الثواني التي سوف تأتي. فلم يبقَ مني سوى قشّة فوق هذا التراب، وبين الحصى، فلتعدّ العشاءَ لك النائحات.
وداعاً.
سريعاً مضى العمر حتّى كأنّ السنين شرارات جمر، وكفّ تضم يمامة وقت بخمس أصابع ليس لها عُقَد. ليت لي جسداً عمره عمر روحي. وليت المجيء بجسم قليل يصير مجيئاً بجسم أخير، ليُلغى من الأرض هذا الوداع الأخير. أحبّكِ حتى لأغدو فقيراً أمام كنوز يديكِ. ولا البحر يكفي، ولا شجر الأرض، حتى أجيئك ذات مساء ببعض الهدايا. وقد كان قلبي كراهب دير، يفتش عن صلوات العصافير وهي تغطّ مناقيرها في المياه، لأختار منها كلامي حين أراكِ. وداعاً، ترافقكِ الشمس طيلة هذا الغياب. اغمري الغيم عنّي، وخلّي صديقي التراب يراسلني كل عام بمكتوب قمح.

مشهد المرأة
يا أيتها الملأى بأيدٍ لرجال قد مضوا، كل الذين قد أتوا، أتوا لأجل امرأة. فساعدي يديّ لاكتشاف ما لم يصلوا إليه فيك. إنني أرقّ، أبهى، كاملٌ أكثر، حدٌّ ونقي، لامعٌ، سكران وجهي فيك مثل حورة قد شربت إبريق ريح، ناضح كغيمة في شجر البحر، منقّح كجملة النبيذ بعدما الخمّار نقّح العريش. لا سواد فيّ، لا انحناء، فافتحي البياض لي. تحوّلي إلى غمامة مُخصِبة لكي يصوغ القمحَ والوردة من قامتك البيضاء فنُّ الريح.
يا كثيرة لم أكتشف إلا القليل منك. يا بعيدة ليس معي منها سوى القريب. مات كل فرسانكِ، لم يبق سواي، ساعديني أن أكون كلّهم في واحد، رسولك الجميل في الأرض، شهيدك الذي قد عُلّقت قميصه الحمراء في كنيسة النهار، زيّني خطاي السبع بالحكمة، قلبي بالبياض، جبهتي بقوس نَجْم، وأظهري على نحولي منك طيفاً يرشح الذي تبقّى من دمي عليه. يا مملكة ملأى كنوزاً، أجمل المرأة فيك أن تكوني امرأة الكلّ التي تحمل رقصاً للمحبين، غناءً للذين اشتعلت أفواههم ورداً ومزماراً، فخلّي الأرض قاعةً وراقصين، كلّ راقص يأتي بثوب أبيض، يرمي على رجليك سيفاً وخزامى، ثم يدعوك إلى الرقص، فترقصان حتى ليظنّ الوقت نوماً، وهو في حلم، وأنت امرأة مشتعل في خصرها الرقص، استحالت شمعة، عشاقها إن ضوّؤوها، هي من يبقى ضوؤها يقطر أعراساً، وهم في ظلّ نهديها يذوبون بها.
(من مجموعة «مملكة الخبز والورد» 1991)

هنا
هنا لا رنين السواقي، ولا شجر الخوخ، والدرَج المستظلّ بخيمة دفلى، ولا قيصريّة كل العصافير، لعبة أختي، بياضات حبل الغسيل، دكاكين بيع الملبّس والفستق الساحليّ.
هنا، لا سريري، ولا تينة البيت. لا وجه أمي الذي يشبه الأحد البلدي، ولا وردة بلغَت خمس عشرة شمساً وظلّت بغير مناديل، أو عازبه، هنا راهبَه.
هنا
لا الصباح الذي تجد الحقل تحت الوسادة فيه، ولا الكسل الشاعريّ، ولا كعكة القمح من صانع الفرن. لا لغة الغصن، والقصب الفارسي، ولا أمُّ غيم تعلّق في ثوبها ولد السنديان البعيد.
هنا
لا مساء المواقد. لا الثلج يفتح علبة تبغ لنا فندخّن منها ونرسل ذلك اللهاث الضبابي في البرد. لا بدوية حَور تبصّر للموج قبل الرحيل وفي معصميها أساور من ورق ونسيم لها وسوسَه. هنا مدرَسَه.
هنا
لا كراسي مقهى الشحارير في الشِّيخ. لا الغرف البيض والصُّفر للنحل في نرجس البرّ. لا أغنيات الطواحين، والدفُّ ماء، وعيد الطحين يزيّن باب البيوت بقنديل خبز.
هنا
لا سلالم نصعد فيها إلى السطح كي نلمح العربات القديمة وهي تغيب وراء التلال، ولا امرأة تلد التوأمين اللذيذَين: طفلاً، وحلوى لنا. لا أباريق حُمر، وأغنية في زفاف الرغيف، وسوسنة الوقت، والقبلات.
هنا لا كروم ولا معصره. هنا مقبرَه.
(من مجموعة «شيخ الغيم وعكازه الريح» بجزئه الأول: «قميصي الوزّال قبّعتي العصافير»-2001)

التلويح دمع الأكفّ
في الليل تذهب أمهات، لفّهنّ سواده القمريّ. علّقنَ الدموع على المآقي مثل شمع كنائس الوديان. ينقُلن الخطى، من غير أن يخشَين شيئاً في الطريق، فقد غدت من كثرة الرّوحان تشبه مدّ بُسُط في منازلهنّ. كنّ يجئنَ تلّاً، تحته بحر، لكثرة بُعْد آخرِهِ يضيم العين إن وصَلت إليه. هنا، يقفنَ جميعهنَّ إلى الضحى، والليل أسود. ليس إلا الريح تأتي وهي حاملة روائح ذلك البحر الذي ألقى على أمواجه أبناءهنّ فأصبحوا خلف البحار.
وكنّ يكتلن الرياح لعلّ رائحةً لهم تأتي، فيسعدهنّ أن البحر لم يغرق به أبناؤهنّ. وكنّ يغمضن العيون ويستمعن إلى نداءات تجيء من بعيد، لعلّ صوتاً ما، نداءً ما، يكون لواحدٍ ممن مضوا.
فتسيل أدمعهنّ من فرح، لأن الصوت يعني أنّهم خلف البحار السود ما زالوا على قيد الحياة. فآه كم في تلّهنّ شممنَ في الليل البحار. وآه كم أصغينَ للأصوات تحملها الرياح من البحار.
مضى المهاجر، لم يُخلِّ لأمّه إلا خياله.
تبكي وتنتظر الرسائل. لا بريد يجيئها. وروائح البحر العميق، وصوت ريح الليل، وحدهما الرسالَهْ.
(من مجموعة «شيخ الغيم وعكازه الريح»- الكتاب الثاني: «كتاب الدمع»-2001)

آدم بين هلالي الحمام
أفتنُ القمصان عند امرأتي، ما ترتدي من قُطف الحزن الموشّى، في غيابي. شوقها منديلها المرخى عليها. دمعها لم تتشح عينٌ به إلا إذا كان طويلاً. ما ارتدَت في البعد نسياناً ولا إغفاءةً ولا رجُلاً. كانت إذا ما أقبل الليل يغطّي وجهها إكليل شجو، ثم تمضي ليلها سهرانة مع نسوة من ذكريات. لم تكن إلا هديلاً يكتسي طيف يمام. وذراعاها نداءان إذا مدّتهما صارا صدى. كم غالبَت في البُعد أن تغدوَ خيالاً، خوف أن لا تكتسي قامتها إن عُدتُ أو، ألا أراها. حاولَت أن تستعيد النسوة اللائي قديماً كنّها، أن تخلق اللائي سيصبحنَ غداً ميلادها، كي ألتقي فيها بإحداهنّ إن ماتت حنيناً.
كان يأتي قمر يحرسها. ستّ غيوم أطفأت عينهنَّ الريح يغسلن لها أردافها بالخزّ والنايات. كان الكوكب البحريّ يسقي بين فخذيها مساء العشق حيث الشمس لا يظهر منها غير قوس تشبه الحاجب في وجه نساء البدو. لمّا عاد من حلمَتها تموز، أوصى شهر أيلول على عام زبيب. أرسل العرّاف تسعين شتاءً كي يجيئوها بمن مدُّ ذراعيه أعاصيرُ وبرق. عاقر إلا إذا ضاجعها من ملحه قمحٌ وزيتون وورد وحمام. لم تجئ في صورة الأفعى. ولا غطّت على أكتافها البيض الخطايا. وجهها نصف ملاك غامض. ما بين ذي الإكليل والسرّة صحن الآس، أبهى ليلة للشمع، أو صومعة في الكرم للرهبان. يا قديسةً أرفع في الصبح ذراعيّ إليها، وأنا أجثو أمام العري فيها، إفتحي لي ماءك السريّ كي يدخل ملحي.
(من مجموعة «السيد البيضاء في شهوتها الكحلية» - 2000)

بيروت
هات خنجر ديك الجنّ أطعن ما تبقّى في دمي منها، لأقدر أن تمسّ أصابعي امرأةً سواها، أن أذوّب من جديد قامتي في العشق. لكن، إنها بيروت. وهي الآن في هذا الحصار المرّ أنقى من نؤاسات المسارج أو وفاء يديك. فاغرق في السحابة كي تشم ثيابها الزرقاء واصعدْ في السنابل كي ترى القُبل التي انتظرتك فيها. وأغلق المرآة، وافتح دمعها، وادخُل إلى الحسد المبلّل بالهفال وزنبقات الحقل. يا بيروت يا امرأتي التي صيفان فخذاها، وتسعة أشهر للبرد بينهما، ونهداها مساءا آخر اليومين من تموز، يا بيروت يا امرأتي، محبّوك الذين غمرتهِم حتى الصباح وخنتني معهم مضوا. هل تلحقين بهم إلى أجسادهم كي يغلقوا أبوابها في وجهك المنسيّ، أم تبقين في هذا الحصار، وحولك الفقراء من طردَتهم الأسواق من بستانها الممتصّ كل جباهنا الحمراء، ممن لا يملكون سوى العصيّ، وموتهم من أجل أن تبقي، وأوسمة الدموع معلّقات تحت أعينهم؟
فيا فقراء، فلننشر لبيروت الغروب لعلّها تختار نزهتها إلى دمنا، وتجلس تحت صفاف الأكفّ. وكلّما قصّت جدائلها، سقيناها مرايا الروح حتى يستفيق بشعرها ناي، فيطول من جديد، كلما اشتاقت إلى فمها حملنا بركةً في الليل أشعل ماءها قمَر. ويا فقراء، فلندخل إلى يدها لنخرج بالسيوف. فقد أحاط بها الغزاة، وأطفأت قنديلها خوذ العواصف. والقراصنة ارتدوا أسواقها. وتسلّقت أسواقها النيران. وارتفعت على أبراجها الزرقاء رايات الرماد. فتوّجوا بيروت بالعشق المحلّل بالجراح، وفضّة القبضات. هذي أرضكم، فتوزّعوا في الغصن. هذي شمسكم، فتوزّعوا في الوقت. يا فقراء شعبي، واحرسوا بيروت فيكم. إنها ليست بقديس لتعبد. إننا لسنا بنسّاك لنركع. غير أن العشق للوطن الذي ينساب في بيروت، يجعل وجهها الصدفي قديساً، ويجعلنا عراة يُجلدون أمام هذا البحر حتى يركعوا كالأولياء أمام وجه الله. فلتقلع بنا سفن الحصار. إنّا إلى دمنا المذهّب راحلونَ كي نأتي لسيدة العواصم بالنهار.
(من مجموعة «شجرة الأكاسيا»-1986)