أطفأ النور وحاول النوم، لكنه لم يستطع. ظل يفكر في كل ما قاله الكاتب: القتل، العبقرية، المجد الرياضي، سهام... سهام بصدرها الممتلئ وجسدها المتناسق... سهام لا تقبل إلا رجلاً حقيقياً... وأحسّ بجسده مثقلاً، وكأن كل تلك الضربات بالحزام والصفعات والوقوف عارياً تحت المياه الباردة والليالي المظلمة المشبعة بالوحدة... قد استيقظت فجأة. نهض من الفراش. عندما لا يستطيع النوم، يخربش في دفتر المعادلات، لكنه الآن لا يستطيع. ارتدى سروالاً نظيفاً وغادر الغرفة. كانت الشقة لا تزال غارقة في العتمة والصمت. ألقى نظرة على المطبخ فوجده كما تركه. حمل مفاتيحه وغادر الشقة. وسار على امتداد حي الأطلس. في الطريق، انتبه إلى أنه نسي ساعته. ورأى الفتاة التي كانوا يريدون اغتصابها تجلس معهم، يلتمع وجهها الأغبر مع جمرة السيجارة في الظلام. الشوارع خالية، والمحالّ والمقاهي مقفلة. مخنث يحاول إيقاف تاكسي. وكانوا في مقهى «لارونيسونس» يجمعون الكراسي. وحدها البارات وبعض الحوانيت لم تقفل. كان يشعر بحقد شديد نحوها. لطالما تمنى أن يشبعها ضرباً، وأن يمد يديه ليخنقها... لكنه لم يكن قادراً سوى على البكاء والصراخ.

وِيسْتْلٍرْ: ليليَّةٌ بالأسوَد والذَّهبيِّ (زيت على قماش، 1875)

مشى على امتداد الحديقة الطويلة جداً، المليئة بالعشب وأشجار النخيل، والكراسي الرخامية الباردة، وعبر إلى الحديقة المجاورة، التي تبدأ من الفندق وتنتهي عند ولاية الأمن. في الصيف، يكون المكان مساءً ممتلئاً بالناس والأطفال الزاعقين، وبائعي الذرة والفشار وغزل البنات... وتكون المقاهي مضاءة، يصدر منها ضجيج الزبائن... الناس يمارسون الرياضة وينزّهون كلابهم، والأطفال يركبون عربات صغيرة مضاءة بألوان قوس قزح... أما الآن، فبالكاد تمتلئ المقاعد الرخامية. جلس على مقعد وظلّ جامداً، لا يفكر في شيء، أو هي أفكار كثيرة كانت تزدحم في رأسه. فكّر في كلام الكاتب، ردّد ما قاله: «يجب أن تتغير... يجب أن تتغير».
العالم لا نهائيّ، ومتغير باستمرار، بينما هو ثابت، لا يتحرك، لا يتغير، أو هو عاجز عن التغيير، لشيء في ذاته، رغم عبقريته. لا يريد أن يستمر في هذا الوضع إلى الأبد، عليه أن يجرب مكاناً آخر، أن يُدخل هواء جديداً إلى رئتيه... لا يريد أن يبقى من أصفار ما بعد الفاصلة: لا تُحتسب... مثله مثل آلاف الأصفار الذين يعرفهم، الذين لا تشكل حياتهم، أو حتى موتهم فارقاً...
كلما فكّر في شساعة العالم، وفي لانهائيّته، بدا له الأمر مستحيلاً وفي غاية الغباء... وعليه أن يتوقف عن التفكير في التغيير، والحلم بحياة أخرى... وأنه مجرد شخص متوحّد، ضعيف البصر، يعيش تحت ظل امرأة مشبعة بالقسوة. يخاف أن يغادرها فلا تغادره، أن تظل ساكنة في داخله غير قابلة للموت أو النسيان. أن تظل حية بكل جبروتها وقسوتها المبهمة. نتيجة وعي مبكر شديد، عرف أنه قد انفصل عن تلك المرأة، أمه، وأنه صار جزءاً غريباً عنها، تتفادى وجوده في حياتها.
«لقد تعبت!» عند كل محاولة اقتراب منه تبتعد، وكلّما مدّ يده تجاهلته كأنها غير مرئية. لطالما تمنى أن يكونا مثل أم وابنها، عاديين: ينام في حضنها، تقبله عند الحضور وتسأل عنه عند الغياب (مضى وقت طويل لم تلمس شفتاه بشرتها. ربما العمر كله!) يتحدثان، يخرجان معاً، يجلسان للأكل بكل حبّ وود، تسأل عن أتفه تفاصيل حياته. لكنها كانت دائماً تكسر توقعاته.
بعد الفحوصات والأشعة قال الطبيب:
- ابنكِ يا سيدتي مصاب بمتلازمة اسبرجر، نوع من التوحّد...
- التوحّد؟ هل هو معاق؟؟
- لا. التوحد ليس إعاقة. إنه مجرد اضطراب، وراثي في الغالب، لكنه سيعيش حياة طبيعية كالآخرين.
دفعت بي داخل المنزل وقذفت حقيبتها والمعطف، وصاحت:
- متلازمة اسبرررربررر... ستبقى بلا فائدة طوال حياتك.
أحلامه عبارة عن سقوط متكرر ولا نهائيّ في فراغ عميق معتم. يحاول التشبّث بشيء ينقذه من السقوط.
قام عن المقعد وسار على امتداد الحديقة مرة أخرى، مستمعاً إلى طقطقة المفاتيح في جيبه. عبَرَ الرصيف، ودخل زقاقاً مظلماً ولشدة استغراقه، لم ينتبه إلى ضوء السيارة يخترق عتمة الزقاق، حاول - في آخر لحظة - صعود الرصيف بحركة سريعة، لكنه تعثّر وسقط. ظن أن صاحب السيارة سيتوقف، بعد أن يراه من خلال مرآة السيارة الجانبية، وينزل لمساعدته، لكن السيارة أكملت طريقها. لم يتمزّق السروال لكن رُكبته جُرحت. امتلأ برغبة قوية في إحراق العالم. كان أضعف من ذلك، وهو يعلم ذلك جيداً.
لماذا تفادى السيارة في آخر لحظة ولم يتركها تصدمه؟
رغم الألم في ركبته اليمنى، تجوّل في ليل المدينة، وجاب الشوارع التي يعرفها جيداً، الصاخبة نهاراً، الهادئة ليلاً، هدوءاً صاخباً. لكنّ هواء الليل لم يدخل رئتيه.
في المرحاض ضمّد الجرح، وغسل ساق البنطال حيث تكوّنت بقعة من الدم. وهو ينشر البنطال في الشرفة نظر إلى السماء السوداء، فكّر:
- الله في السماء. لطالما أرسل دعواته إلى الله، لكنّ الله لم يستجب، ربما هو غير موجود. الرياضيون لا يؤمنون بوجود الله، يرون أن العلم قادر على تحقيق ما فشل الله في تحقيقه.
- كرهني الناس فكرهت نفسي. أنا بلا قيمة: حياتي، أفعالي، أحلامي، حتى تنفّسي هذا مجرد هواء ينتشر في الفضاء ثم يتلاشى.
أنا مجرد عاهة في أعين الجميع: ابتداءً من أمي إلى أتفه كائن على هذه الأرض.
كان المنزل صامتاً. في الخارج يُسمع صوت السيارات المارّة، والمصابيح التي تنطفئ عند الفجر، تكشف عراء الشارع. ووسط هذا الصمت، وألم ركبته، حاول النوم.
رقيق هو الليل،
قاسٍ هو الليل...

* فاس/ المغرب