إنه كتابٌ مختلفٌ للغاية. سيرة حياة لكنها ليست سيرة حياةٍ كذلك. سيرُ الحياة تتناول في المعتاد، حياة شخصٍ ما بشكلٍ يستدعيها، ويكتبها إثر نهايتها. يأتي كتاب «غُيِّب فازداد حضوراً: حنا إبراهيم ميخائيل (أبو عمر) ــــــ إعداد زوجة المناضل ورفيقة سلاحه جهان حلو» (دار الأهلية) مقارباً سيرة حنا إبراهيم ميخائيل (1935 ــــ 1976) أو أبو عمر، الجامعي والمناضل الفلسطيني المثقف الفذ التي لم تنته بعد، إذ إن فصول نهايتها لما تكتب بعد. اختُطف حنا ميخائيل فجأة في أواخر شهر تموز (يوليو) من العام 1976، حين كانت الحرب الأهلية اللبنانية لا تزال في بداياتها. اختفى المناضل الفلسطيني مع تسعةٍ من كوادر المقاومة الفلسطينية، على رأسهم عبد الحميد وشاحي (اسمه الحركي نعيم)، أثناء سفرهم عبر زورقٍ مطاطي متوجهين من بيروت صوب شمال لبنان وتحديداً مدينة طرابلس. ومنذ ذلك اليوم لم يسمع أحدٌ عنه شيئاً، لم تظهر جثّثهم، ولم يكتب لهذه القصّة نهاية. بالتالي إننا أمام نهايةٍ مفتوحة، حتى ظهور تلك النهاية مهما كانت مفجعة. بعضهم قال بأنَّ «القوى الانعزالية وأعداء الثورة» –بحسب الكتاب- هم من اعتقلوا أو قتلوا الراحل ومجموعته. لكن لا نتيجة نهائية، على الرغم من قضاء جهان حلو أربع سنواتٍ كاملةٍ في البحث عن أي أثرٍ يعيد الراحل إليها، أو على الأقل تصل إلى نتيجةٍ واضحةٍ حول مصيره.

يقسم الكتاب إلى أجزاءٍ متعددة، وهو كما أشرنا ليس كتاب سيرةٍ معتاد. يُفتتح بمقدمة هي إجابة على سؤال: لماذا كتاب أبو عمر؟ تجيب معدّة الكتاب وحافظة ذكرى الراحل المناضلة الفلسطينية جهان حلو، على هذا السؤال، ليأتي بعد ذلك تقديم الكتاب ثم ذكريات الأهل، وذكريات الأم وشهاداتٍ وذكريات حول الراحل من شعرٍ ومقالاتٍ ونصوص وأبحاث كتبها الراحل بنفسه؛ وصولاً إلى تفريغ رحلة البحث عن أبو عمر التي امتدت لسنواتٍ أربع في محاولةٍ للوصول لنهاية لتلك القصّة، أيما كانت النهاية.
انضم دكتور مادة الشرق الأوسط والدراسات الإسلامية وابن مدينة رام الله حنا ميخائيل، خريج جامعة «هارفرد» الأميركية (دخلها عام 1953 إثر منحةٍ دراسية) إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» في العام 1967، على إثر ما عرف بالنكسة. كان المناضل الفلسطيني قد ذهب إلى أميركا بدايةً لدراسة الكيمياء. لكن السياسة كحال معظم الفلسطينيين قد جذبته، فقرر دراسة العلوم السياسية، ليدخل بعدها سلك التعليم. درّس في جامعة «برينستون» العريقة (وهي من الجامعات العشر الكبرى الأهم في العالم)، ثم جامعتي «واشنطن» و«سياتل». عمل الراحل في دائرة العلاقات الخارجية في «فتح» التي كانت تعمل على إقامة علاقات أمتن مع اليسار الفرنسي والإيطالي والأميركي. وقد كان موجوداً في «القطاع الغربي» خلال وجود الشهيد كمال عدوان على رأس ذلك القطاع.
قبل اختطافه، كان قد انضم إلى العديد من المؤسسات الثقافية المؤثرة مثل «مركز الأبحاث الفلسطيني»، و«مركز التخطيط الفلسطيني». وكلاهما مركزان «ثقافيان» مهمّان لهما قيمتهما العلمية في تلك المرحلة. في الوقت عينه، عمل الراحل في مجلة «شؤون فلسطينية» كعضو في هيئة التحرير. لذلك، يمكن اعتبار ميخائيل واحداً من طليعة المثقفين الثوريين المشتبكين الذين خلطوا العمل التنظيري النظري بالنضال الثوري المباشر من خلال الانضمام إلى الثورة بشكلٍ تطبيقي «صراعي». وهذا ما يرويه الكتاب من خلال شهادات عددٍ من الأشخاص الذين عرفوا أبو عمر عن قرب. يحكي مثلاً إميل عشراوي وهو مسرحي فلسطيني، عن اهتمام ميخائيل بالمسرح، فهو كان صديقاً لعمالقة المسرح اللبناني، كروجيه عسّاف، جلال خوري، شوشو (خضر علاء الدين). ويروي نديم زرو وهو رئيس بلدية رام الله السابق، عن اهتمام أبو عمر بالأشبال (الصفة التي تعطى للمناضلين صغار السن في الوسط الفلسطيني/ التنظيمات الفلسطينية)، راوياً أن أبو عمر قال له: «يجب أن نوعّيهم ونثقفهم ليعرفوا قضيتهم». كان أبو عمر صديقاً حميماً للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد تعارفا خلال لقائهما في أميركا. قال سعيد عن ميخائيل: «أعجبت فوراً بتواضعه الجم وتهذيبه إضافة إلى عقله الوقاد». هذه الصداقة دفعت ميخائيل إلى الطلب من سعيد، أن يكتب مقدمة الرسالة البحثية التي تحصّل منها على شهادة الدكتوراه، وحملت عنوان «السياسة والوحي: الماوردي وما بعده». تلك المقدّمة أورد فيها سعيد: «الشيء الرئيسي الذي يعكس عظمته وسخاءه، مبادرته بالذهاب إلى عمان في المقام الأول؛ حيث يحمل شهادة دكتوراه من «هارفرد» ولديه منصب أكاديمي مضمون في الولايات المتحدة، تخلى عن هذا كله واستعاض عنه بمستقبل مجهول، ناهيك بالمخاطر التي تحيط بموقع المتطوع في حركة شعبية لما تنطلق بعد». الصداقة نفسها جمعته أيضاً بالكاتب الفرنسي المعروف جان جينيه. توطدت علاقتهما كثيراً أثناء زيارة الأخير إلى الأردن تضامناً مع الثورة الفلسطينية، وقد ذكر جينيه تلك العلاقة في كتابه «العاشق الأسير» حينما قال: «تميز أبو عمر بالشجاعة والذكاء في أي عملٍ قام به. ومن خلاله أصبحت أفهم حياة النساء الفلسطينية الصعبة الضيقة في المخيّم». في الإطار نفسه، نسج الراحل علاقاتٍ شخصية مع نعوم تشومسكي، وإقبال أحمد، وريتشارد باتلر، وشيلا رايان وسواهم.
الكتاب من إعداد زوجة المناضل ورفيقة سلاحه جهان حلو


«رغم أنه كان عضو إقليم فتح في لبنان- وهو منصبٌ كبيرٌ في تلك المرحلة- إلا أنه رفض امتلاك سيارة» وكان «يرتدي ملابس بسيطة، حتى إن أمي كانت تقول له كيف الناس بدها تعرف إنك دكتور من هارفرد وانت لابس نفس البدلة دايماً» تقول حافظة أسراره، جهان حلو عنه. في الوقت نفسه، نجد أن الراحل رثاه كثيرون، من بينهم الشاعر المعروف معين بسيسو حين قال: «أكتب لك/ أنت الآتي من بعدي/ وأنا الآتي من بعدك/ جسدي في يدك كتاب/ وأنا أكتب جسدي/ كي تقرأ جسدك/ أنت الصوت الآتي بعدي/ وأنا الصوت الآتي بعدك». في عام 1998، قررت محافظة رام الله والبيرة تكريم الراحل بتخليد اسمه من خلال تسمية أحد الشوارع الرئيسية باسمه، في محاولةٍ لإبقاء ميخائيل في عقول وأذهان من عايشوه ومن سيأتون من بعده. ولربما أكثر ما يحزن عنه هو وصيّة والدته التي انتظرت طويلاً عودته، وقالت فيها أن يعلن نبأ استشهاده في يوم رحيلها، كما لو أنّها كانت تريد القول بأنها ستلتقي به هناك في العالم الآخر، حيث يلتقي كل المحبون ببعضهم.
كتاب يؤرخ لغائب/ حاضر لا يزال وجوده مؤثراً على الرغم من سنوات «اختطافه» و«تغييبه»، ذلك أن فكرة «الثائر الرومانسي والمثقف المشتبك» ــ مذ أجّجها الثائر الأرجنتيني تشي غيفارا ــ ظلّت حاضرة بلمعانٍ كبير في أذهان الجميع ولو بعد ألف حين. يأتي حنا إبراهيم ميخائيل نموذجاً مختلفاً للقائد الفلسطيني غير المعتاد. ربما لهذا ليس هناك من تنظيمٍ أو جهةٍ سياسية فلسطينية (أو غيرها) تتبنّى الرجل وفكره لسببٍ بسيطٍ فقط: إنه يعرّي مفهوم القائد والقيادة.