يقترب الكاتب محمد أبو ناموس، عبر رواية «بساط الريح» (دار كنعان)، من التحليق برشاقة ممتعة في فضاء سريالي يكاد يكون مجرداً من المكان وتضاريس القسوة والقهر، ليقدم ما يدور في كينونته الخاصة للمتلقي بنكهته المميزة وبتلقائية، من دون تصنّع أو استعراض. مع «بساط الريح»، تعرف أنّ التشبّث بالحياة صعوبة تعادل صعوبة الموت نفسه. إنها صعوبة كامنة في جوهر الحياة كلها. وكما قال الشاعر والروائي والمخرج المسرحي الفرنسي جان كوكتو إنه في نهاية الأمر، نكتشف أن كل شيء في الحياة يكمن معالجته إلا صعوبة الكينونة. إنها الصعوبة المستحيلة التي لا يمكن معالجتها، ولا شك في أنّ الكوميديا تقر هذا الوضع حزناً وسخرية. مشاهد متتالية غير وثيقة الصلة، إلا في الرابط التهكمي في ما بينها؛ وبأسلوب يكسر المألوف في البُنية الروائية. مع «بساط الريح»، تدرك معنى الكوميديا السوداء التي تلخّصها صورة الكينونة المستحيلة في المخيّلة من دون استخدام تقنية «إرغام القارئ» على الضحك، وخارج النكات المستهلكة. تبقى النصوص المشتبكة مع المعاناة الإنسانية ذات تأثير مكثف في التلقّي، تهزأ من واقع مأساوي وتسجل مواقف في ذاكرة الوجع الإنساني، ما يجعل النص القائم على تلك الدعامة، قريباً من العامة، ومتقاطعاً مع حوارات عائلية وسياسية واجتماعية، ترصد دواخل الذات بلغة بسيطة وسهلة وشفافة ولكن ذكية في أسئلتها وكيفية طرحها، كما حين يقول: «القدس تصرخ طلباً للنجدة من جلالة رئيس لجنة القدس ولكن لا عينه ترى ولا أذنه تسمع» (ص 53).

مع «بساط الريح»، تلوح للقارئ صراحة وشجاعة الكاتب المتمرّس، كونه المشحون بالفكرة السياسية الناقدة والإعلامية اللاذعة، مثلما نجتمع معاً لنتشارك التّذمُّر من الهزائم والأزمات الوطنية والانكسارات والخيبات الخاصة والعامة، وخاصة كلما حاصرتنا الخيبة نلجأ إلى النكتة. هو ليس من النوع الذي يعتبر الضَّحك ممارسة بورجوازية ممنوعة، وأنّ كل شيء في هذه الحياة جادّ لا يقبل الضحك، وأن موقعه يلزمه أن يكون عابساً حفاظاً على الهيبة والمسؤولية. وهو في قلب الوجع داخل القاع الاجتماعي ذات السمات الخاصة، يحمل سمة المخيم والمنفى والغربة والحياة العارية، فيخلق عالماً متخيّلاً، تدور فيه عجلة السرد بسلاسة، وتتشظى الحوارات بين مسارات الأحداث والمعاناة المتوالدة، في مشاهد متتالية غير وثيقة الصلة إلا في المشترك التهكمي في ما بينها؛ وإن جاءت خارج الحبكة الروائية المعروفة للجميع، كعوالم ناشئة ومتداخلة تبدأ من نقطة ولا تلبث أن تتكاثف. النص قصة من مدرسة اللاوعي، يقوم على تقنية السرد المشهدي، ويحتاج إلى أكثر من محاولة لملاقاة الفكرة التي يغرسها في تربة النص الرخوة والناعمة والخصبة.
ومع «بساط الريح»، تدرك أنّه ليس بالضرورة أن تمنحك سهولة النص القدرة على فهمه؛ إنّما التعلق به. ذلك أنّه يمرر تلميحات وحكايات كأنها تُتلى من اللاوعي الضاجّ بالتعابير وبالصور والمعاناة. يراها من بساط الريح الذي يسرد تلقائياً عوالم عدة. يتركها بين يدي القارئ وتأويله، وتفكيك الشخصية المكبوتة بانفجارها واهتزازها وانهزاميتها، كالدعوة الجارحة والتهكمية عندما يدعو «لتشكيل هيئة عربية شعبية. تجرم وتدين وتقاطع سواء كان فرداً أو مؤسسة أو كياناً سياسياً أو دولة تسيء للفلسطينيين. قانون يقر شعبياً والعمل على إقراره رسمياً. قانون معاداة الفلسطيني» (ص 70). كما أعرف صاحب «بساط الريح» الذي يتقن سرد الفكاهة ضد التفاهة. محترف فن السخرية، وباللغة الدارجة والصورة الكاريكاتورية للشخصيات محل الانتقاد والسخرية بالنسبة إليه، سواء بشخصيات مبتكرة من ربّ العائلة أو شيخ العشيرة أو المسؤول الحزبي. لكن في كل الحالات، يظل «دون كيشوت» الذي يقاتل طواحين الهواء وبسخريته اللاذعة في سلسلة مقالته المعروفة، مستخدماً اللغة الشعبية المحكية كإطار عام للحياة اليومية في حين أنّ اللغة الفصحى هي الشكل الرسمي للتداول الأدبي والثقافي. هنا تكمن أهمية الأدب الساخر واللغة الشعبية التي تمزج بين الخيال والواقع، لتعميق صلة الحكاية الشعبية بحياة الناس. على مستوى أدبنا الشعبي، لدينا خزين من الموروث الشعبي الشفَهي والمدوّن. لذلك ليس غريباً أنّ في رصيده العديد من النصوص والمقالات الإبداعية وما تحتويه من فن وخيال ونكات ونقد وغمز ولمز وهمس وتلميح، عادة نستنجد بسخريته لمواجهة مرارة الهزيمة، حين كان الضحك أداة للتنفيس عن الكبت والتعبير عن القهر وأسرع وأنجع من البكاء.
تظلّ الكوميديا سرّ صمود الفلسطيني وخلق التوازن الإنساني


هكذا جاءت في زمن التيه بعدما اختفى المخيم وضاعت العناوين، وتلاشت المقاهي والمجالس واليوميات الروتينية في مقر مجلة «الهدف»، وضاقت مساحات اللقاء. وكما يقال «وانفخت الدف» وتفرّق الرفاق والعشاق، واختفت طاولات النقاش ولم تعد تتسع المجلة لعَمود ساخر، ليهجر السخرية السياسية المعهودة ومن العيار الخفيف إلى عالم السخرية السردية ومن العيار الثقيل. بعد روايته «حراك الشهداء»، حملنا على «بساط الريح»، ربما تفتح صفحة جديدة في فضاء ديمقراطي يستطيع أن يقول ما يريد. أوجزها بقوله: «نريد تطهير الأسرة من كل ما علق بها من تخلّف ورجعية على مدار وجودكم على رأسها...» (ص 145).
و«بساط الريح» لا تعتمد بنية فنية أو حبكة ولا تسلم القارئ لعنصر الدهشة أو المفاجأة في سعيها لتحصيل الدهشة. يدور الحوار على نحو من الهدوء، غير أن تملك صوتاً دافئاً، مباشراً وحاداً وجازماً كعبارته «الحياة لا ينحني فيها أحد للآخر ولا يحق لأحد أن يستعبد الآخرين مهما علا شأنه. علينا أن نتعامل بنزاهة وشفافية في قول الحق...» (ص 142).
وأخيراً، كما قالت العرب إنّ «شر البلية ما يُضحك»، فقد انتصر الحس الكوميدي في «بساط الريح»، بفضح البؤس السياسي من المحيط إلى الخليج وبلغة الناس العاديين وسياسة البؤس والقهر والظلم التي يعانيها اللاجئ والمواطن معاً. لقد حاول المؤلف أن يعالج صعوبة الكينونة التي يعيشها الإنسان العادي يومياً، لأن حياة الفلسطيني اليومية، وإن كان يسكنها تيار خفيّ من روح الشقاء والتراجيديا، لكنّ الكوميديا تظل سر صموده وخلق التوازن الإنساني عنده بصفة عامة.