ما زالت الآية الرقم 6 في «سورة الصف» التي يبشر فيها المسيح برسول «اسمه أحمد» مثار تساؤلات وجدالات:«وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِين».
وفي سياق الجدال الإسلامي- المسيحي حول هذه البشارة، ربط الكتاب المسلمون بين «أحمد» الآية والمعزي بصيغته اليونانية الفارقليط Paraclete، وبصيغته الآرامية المنحمنا Mnhmna. فأحمد، الذي هو النبي محمد، هو المعزّي في يوحنّا. ونجد أوضح صيغة لهذا الربط عند ابن اسحق في السيرة النبوية:
«والمنحمنا بالسريانية: محمد: وهو بالرومية: البرقليطس، صلى الله عليه وآله وسلم» (ابن اسحق، السيرة النبوية). وقد انتهى الأمر إلى أن صار الربط بين الفارقليط وأحمد قطعة مركزية في التقليد الإسلامي.

انقر على الصورة لتكبيرها


بعيداً عن الفارقليط
لكن هذه الورقة ستترك أمر الفارقليط والمنحمنا وراءها، محاولة حلّ مسألة البشارة بأحمد من خلال المقارنة بين صيغتين، أو قراءتين، للآية ذاتها. القراءة الأولى هي القراءة الإسلامية الرسمية كما وردت في المصحف العثماني. أما القراءة الثانية، فهي قراءة أبيّ بن كعب. فقد عُثر على قراءة أبيّ لهذه الآية قبل عقود على هامش «سورة الصف»، في مخطوطة كتاب «قرة عين القراء في القراءات» لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد المرندي، الذي انتهى من تأليفه عام 588 هجرية. وقد حُقق الكتاب حديثاً، لكنني لم أستطع الحصول على النسخة المحققة. غير أنه ولحسن الحظ، وجدت على الإنترنت صورة فوتوغرافية منشورة للمخطوطة الأصلية في مكتبة الأسكوريال في مدريد، لا أعرف ناشرها الأصلي. المخطوطة مكونة من 225 ورقة الكتابة فيها على الوجهين. وقراءة أبيّ موجودة على هامش الورقة 201. وهي مكونة من سطر واحد مكتوب عمودياً، ومن الأسفل للأعلى. فقد قلب من كتب القراءة الورقة، وكتب الآية عليها، فتبدى كما لو أن الآية كتبت من الأسفل للأعلى.


ولسنا ندري في الواقع إن كانت الآية حسب قراءة أبي، وغيرها من القراءات، قد وضعت على هوامش الصفحات من قبل المرندي أو واحد غيره. وظني أنها من وضع واحد غيره. وكان أول من انتبه لوجود هذه القراءة المهمة آرثر جيفري (1)، وقد فعل بتنبيهه لنا إليها خيراً كبيراً. تقول القراءة: «إنّي رسول الله إليكم وأبشّركم بنبيّ أمّته آخر الأمم يختم الله به الأنبياء والرسل قالوا هذا سحر مبين».
ورغم أنه مرت على نشر كتاب جيفري عقود كثيرة، فإن هذه القراءة المختلفة، والمفاجئة، لم تثر انتباهاً جدياً عندنا. الانتباه حصل جزئياً بعد نشر سين أنثوني Sean W. Anthony ورقة له حول ابن إسحق والفارقليط سنة 2016 (2) أعاد فيها التذكير بقراءة أبيّ وبيّن رأيه فيها. بعد هذه المادة، أخذت المواقع الإلكترونية ووسائط التواصل الاجتماعي في العالم العربي تتحدث عنها. لكن الغالب أن القراءة استخدمت في سياق الجدالات الطائفية الإسلامية- المسيحية المتعصبة حول مسألة المعزي، أو في سياق مقالات اللادينيين العرب التي تريد إبطال فكرة الوحي. بذا فاستخدامها في العالم العربي تم عموماً في سياق عقائدي وليس بحثياً.

ملاحظات عامة على قراءة أبيّ
وقد كان يفترض أن يؤدي العثور على قراءة أبيّ إلى فتح الباب لحل لغز البشارة بالنبي الذي اسمه أحمد. لكن الذي حصل هو العكس. فقد ازداد اللغز تعقيداً في الواقع. فعدم وجود الاسم (أحمد) في قراءة أبي، أوصل إلى انتشار فرضية متسرعة تقول بأن البشارة بالنبي أحمد إضافة لاحقة على القرآن. وهذا في الواقع أسهل الحلول، وأقلها إثماراً.
ويمكن تفسير ظهور هذه القراءة في كتاب متأخر. فقد تحولت البشارة بأحمد إلى قطعة مركزية في العقيدة الإسلامية. وهو ما جعلها في موضع شبه إجماع تقريباً. وبدا للكتاب المسلمين كما لو أن المجادلين المسيحيين اعتبروا هذه البشارة ثغرة يمكن الهجوم على الإسلام من خلالها. فليس هناك في الأدب البشائري المسيحي أي ذكر لنبي اسمه أحمد، مما يسمح بتكذيبها. وهذا أدى إلى أن قوى الدفاع الإسلامي ركزت على هذه الثغرة محاولة سدها. وفي اعتقادي أن هذا هو الذي أدى إلى تهميش قراءة أبيّ بخصوص هذه الآية. فالإمساك بهذه القراءة من قبل المجادلين المسيحيين، كان يمكن أن يؤدي انتصار عقائدي للمسيحية وهزيمة للمسلمين. من أجل هذا، فقد أبعدت هذه القراءة عن الوعي العام، ولم يعد أحد راغباً في ذكرها، رغم أن مصحف أبيّ ظل مقدراً ومحترماً دوماً. وهذا هو سر ندرة ذكر هذه القراءة المهمة. لقد كانت مرغمة على العيش في الظل، في الهامش، بسبب الصراع العقائدي الإسلامي- المسيحي.
لكن بعدما خمدت الحرب الأيديولوجية الإسلامية- المسيحية على هذا النقطة، لم يعد ذكر هذه الآية يشكل خطراً جدياً. لهذا صار بالإمكان ذكرها في المصادر المتأخرة. هذا يعني أن لذكرها المتأخر عند المرندي أسباباً أعمق مما قد يبدو من النظرة الأولى.

القراءتان
على أي حال، فإن الاستخلاص المتسرع القائل بأن قراءة أبيّ في المرندي دليل على أن البشارة بأحمد زرعت في القرآن لاحقاً، غير مثمر، ويغلق الباب نهائياً أمام أي جهد للمسألة. وفي رأيي أن الإثمار هو المسألة الأهم هنا. فكلّ حل غير مثمر، أي غير قادر على فتح الباب أمام ظهور وعي أعمق بالمسألة المطروحة لن يكون صالحاً. فليس الهدف هو إقفال الأبواب، بل فتحها على التناقضات التي خلقت لنا مسألة البشارة. والقول بأن البشارة إضافة لاحقة هو صفق للأبواب لا غير. وهو يجهض أي محاولة لاستجلاء الحقيقة.
وهذه المادة محاولة لفتح الأبواب من أجل الوصول إلى حل مرض لقضية البشارة بأحمد، وللإطلال على تعقيدات عملية جمع القرآن في عهد عثمان، بالاستناد إلى قراءة أبي بن كعب. وفرضيتنا تقول إنّ حل المسألة يتم عن طريق جسر الهوة بين القراءتين. إذ لا يمكن أن يكون التناقض بهذا الاتساع وهذا الحجم في الأصل: واحدة تقول هناك نبي اسمه أحمد، والثانية تنفي وجود هذا النبي. هذا التقاطب مثير للشك. وهو ما يجعلني أفترض أن في القراءتين معاً تصحيفاً لنص أصلي واحد، وأنه يمكن الوصول للصيغة الأصلية عبر المقارنة بينهما.
ولنبدأ أولاً بعرض القراءتين.
الآية بحسب المصحف العثماني:
«يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هٰذا سحر مبين»
الآية حسب قراءة أبي في المرندي:
«يا بني إسرائيل إنّي رسول الله إليكم وأبشّركم بنبيّ أمّته آخر الأمم يختم الله به الأنبياء والرسل قالوا هذا سحر مبين».
وكما نرى، فليس هناك ذكر لـ «نبي اسمه أحمد» في قراءة أبي. وهذه هي الواقعة المركزية: قراءة تثبت نبياً اسمه أحمد، وقراءة تتجاهل وجوده. فوق ذلك، فإن جملة «مصدقاً لما بين يدي من التوراة» في القراءة العثمانية سقطت في قراءة أبيّ. لكن يبدو لي أنه لا يجب الافتراض أن أبي في مصحفه أسقطها فعلاً. إذ يبدو أن من وضع هامش قراءة أبيّ في كتاب المرندي كان مهتماً بالنقطة المركزية المختلف عليها بين القراءتين، أي بجملة: «بنبيّ أمّته آخر الأمم يختم الله به الأنبياء والرسل» أكثر من أي شيء آخر. لذا يبدو أنه قدم النص المختصر للآية من أجل التركيز على الجملة المحددة.
وكما قلت أعلاه، فإنني أفترض أن قراءتي مصحفي عثمان وأبي لهذه الآية خرجتا من أصل واحد. ولو وضعنا منطقة الاختلاف بين القراءتين تحت بعضهما، كما يظهر في النسخة الملونة أدناه، وحاولنا التكهن بشأن الأصل فربما توصلنا إلى اقتراح ما.



وكما نرى، فقد قسمنا منطقة الاختلاف بين القراءتين إلى ثلاثة أقسام، ولوّنا كل قسم منها بلون مختلف. ولو أننا أزلنا التنقيط، لأن الأصل كان غير منقط، فسوف نكون مع نصي القراءتين كما يظهران في الصورة أدناه.



ومن الواضح أنه يمكن، على الأقل، رؤية شبه محدد ما بين العبارتين بالأزرق في القراءتين: «اسمه أحمد» و«أمته آخر». وهو شبه يوحي أن العبارتين تحريف لأصل واحد، وأن التحريف حصل في إحداهما، أو في كليهما. كما أن من الواضح أن عبارة «اسمه أحمد» و«أمته آخر» يمكن تصحيفهما عن بعضهما في الكتابة اليدوية غير المنقطة. وأنا أقترح أن الكلمة الأصلية الأولى هي «أمته» لا «اسمه». أي أن من قرأ «اسمه» هو الذي صحّف. وإذا صح هذا، فإنه يمكن تقديم اقتراح آخر انطلاقاً منه، وهو أن «احمد» و«آخر» في الأصل كلمة واحدة، قرأتها كل قراءة على طريقتها. ولعلني أقترح أن الكلمة الأصلية هي «أحمد» وأنها صحفت إلى «آخر» في قراءة أبيّ. بالتالي يكون التصحيف قد توزع على القراءتين. فكل قراءة صحّفت كلمة من الكلمتين. وبذا يكون الأصل هكذا: «أمته أحمد...». وهذا سيوصل فوراً إلى أن الكلمة الثالثة يجب أن تكون كلمة «الأمم»، وأن «فلما» تصحيف لها. وهذا يعني أن لدينا جملة من ثلاث كلمات تقول: «أمته أحمد الأمم». وبمعنى: أمته أفضل الأمم، وأكثرها استحقاقاً للحمد. وهذا جملة معقولة ومقبولة تربط بين القراءتين.
إذا صح هذا، فهو يعني أن كلمة «أحمد» كانت منذ البدء في النسخة الأصلية للآية. أي أنها لم تكن إدخالاً متأخراً في النص القرآني، لكنه كانت صفة وليست اسماً. أي أنها لم تكن موجودة كاسم محدد لنبي، بل كصفة لأمة النبي الذي جرى التبشير به، لكن من دون ذكر اسمه. فأمته هي أحمد الأمم، أي أكثرها حمداً وفضلاً.
وقد كان هناك في الحقيقة من اقترح من قبل أن الكلمة صفة وليست اسماً. لكن هذا الاقتراح لم يكن ممكناً بوجود كلمة «اسم». فحين تقول الآية «نبي اسمه أحمد» فلا مجال لكلمة أحمد إلا أن تكون اسماً. أما حين نقرأ «أمته» بدل «اسمه»، فإن الصورة ستختلف كلياً، وتصبح كلمة أحمد نعتاً لأمة النبي.
بناء عليه، فافتراض ابن إسحق أن «أحمد» تعني الفارقليط، أي المعزي، باطل تماماً. فليس هناك نبي اسمه أحمد، أو صفته أنه أحمد. هناك صفة لأمة هذا النبي لا غير: إنها أحمد الأمم.
بهذا، يتبقى لدينا الجملة الثالثة:
«جاءهم بالبينات» و«يختم الله به الأنبياء».
ويبدو لي أن الجملة الأصلية هي جملة قراءة مصحف أبي: «يختم الله به الأنبياء». ذلك أن عيسى بن مريم ما كان ليأتي ببينات على فضل أمة لم تأت إلى التاريخ بعد، أي أمة الإسلام. بذا فالمنطقي أن جملة مصحف أبي هي الأدق. عليه، فالجملة كاملة تقول:
«أمته أحمد الأمم يختم الله به الأنبياء».
ويمكن تصور أن من قرأ «اسمه أحمد» لم يتمكن من قراءة الجملة التي بعدها، فصحفها من «يختم به الأنبياء» إلى «جاءهم بالبينات». وثمة قرب لا بأس به بين «يختم» و«جاءهم». كما أن ثمة قرب بين «الأنبياء» و«البينات».



بناء عليه، فالقراءتان مصحفتان جوهرياً. لكن لكل واحدة نقاط ضعفها ونقاط قوتها. فمشكلة قراءة أبي أنها صحفت «أحمد» إلى «آخر». أي أسقطت العنصر الذي تحول لاحقاً إلى العنصر المركزي بسب الصراع الأيديولوجي الإسلامي- المسيحي. أما مشكلة القراءة العثمانية، فهي أنها صحفت «أمته» إلى «اسمه». وكان هذا التصحيف في جذر الاضطراب الذي حصل. فحين تقرأ «اسمه»، فلا بد أن يتحول «أحمد» بعدها إلى اسم، وهو ما جعل النبي محمد يحصل على اسم آخر ليس موجوداً في الآية. وفي النهاية، يمكن الحكم لصالح قراءة أبي بن كعب في القضية عموماً. فقراءته كانت أقرب إلى الأصل من القراءة العثمانية.
إذا صح هذا، فهو يعطينا لمحة ممتازة عن إشكالات جمع القرآن، وعن الصعوبات الجمة التي كان يطرحها في كل لحظة، وفي كل آية. لم يكن الجمع مسألة بسيطة، بل كان حقل ألغام في الحقيقة. وحين اتفق على النسخة النهائية، عبر الأغلبية، لا بد أن كثيرين من الصحابة كانوا يدركون مشاكل هذه النسخة. لكن هؤلاء كانوا مدركين أيضاً أنه يجب الموافقة عليها كما هي رغم كل مشاكلها، لأنه من دون ذلك لن تكون هناك «أمة» ولا «دولة». عليه، فقد كان مصحف عثمان أساس الدولة وأساس الأمة.

* شاعر فلسطيني

1- Arthur Jeffery, Materials for the History of the Text of the Quran, the Old Codices, A.J. Brill, Leiden, 1937. P.170)
2- Muḥammad, Menaḥem, and the Paraclete: new light on Ibn Ish ̣ āq’s (d. 150/767) Arabic version of John 15: 23–16: 11, Bulletin of SOAS, 79, 2 (2016), 255–278. © SOAS, University of London, 2016.