ينطلق الكاتب الأميركي جيسي بول (1978) من تجربةٍ شخصيةٍ وعائليةٍ في روايته «تعداد»، التي صدرت باللغة العربية عن «دار فواصل» (ترجمة وائل بحري). تتناول الرواية الأشخاص الذين يولدون مصابين بمتلازمة داون. طفرة جينيّة شائعة في العالم، تُظهر تقديراتٌ حديثةٌ لمنظمة الصحة العالمية أنَّ نسبة المصابين بها بين المواليد هي واحدٌ من بين كل ألفٍ إلى ألفٍ ومئةِ مولودٍ، وأنَّ عدد العائلات التي يوجد بين أفرادها شخصٌ مصابٌ بهذه المتلازمة هي نحو ربع مليون في أميركا وحدها. من بين هؤلاء كان أبرام، أخو الكاتب، الذي يعرض في روايته معاملة الآخرين لمصابي داون، في المدرسة والشارع والمتاجر والأماكن العامة. معاملة تكون في أغلب الأحيان قاسيةً وجارحةً لهم ولأهلهم، تغيب عنها المراعاة اللازمة نتيجة قلّة التوعية، وعدم فهم هؤلاء الأشخاص وانعدام الرغبة في فهمهم، وتجاهلهم على اعتبار أنهم غير طبيعيين، كما يشير الكاتب على لسان راويه. بالتالي، جاءت كتابته لهذه الرواية من أجل تذليل هذه المسافة التي تفصلنا عنهم، من خلال تعريفنا على واحد منهم، ومساعدتنا على فهم طريقة تفكيرهم وسلوكهم، ومنها مثلاً أنَّ الأشياء المجرّدة لا تلفت نظرهم ولا يرتقي إليها مستوى إدراكهم، بل فقط الأشياء المرئية الواضحة.


يُسقط بول تجربته إذاً على قصة الطبيب الذي يبقى بلا اسم، و«ولده» كما يظلُّ يُطلق عليه طيلة الرواية، على الرغم من أنه تخطّى مرحلة الطفولة، ويستطيع القيام بمهامٍّ وأعمالٍ أكثر مما يستطيع بقية أقرانه، نظراً إلى الصبر والوقت الذي صرفه والداه في تعليمه ومسايرة فهمه البطيء، وتحديداً أمّه التي كانت ممثّلةً إيمائيةً، مما جعل تخاطبها مع ابنها لا يقتصر على الكلمات، بل يمتدُّ إلى لغة الجسد التي تستطيع أن تفهمها منه وتعرف من خلالها حالته، كما تستطيع أن تُفهمه إياها وتعلّمه عن طريقها.
تتخّذ الرواية شكل رحلةٍ، كانت العائلة الصغيرة قد قررت القيام بها قبل موت الأم وهي نائمة، ولم ينطلق الأب وولده فيها إلا بعدما سقط الأب مغشياً عليه بسبب مشكلة في القلب لن تُبقي له سوى وقتٍ قليلٍ جداً من الحياة.
تبدأ الرواية من نهاية الرحلة، بوصف الأب لجدران القبر الذي حفره لنفسه في التربة، بعدما وصل إلى موته الذي كأنّه قام بالرحلة سعياً إليه واستعجالاً له، مُفَضِّلاً الانطلاق نحوه عوض انتظار قدومه. كما أنَّ هذه الرحلة حرّضت ذكرياته عن ماضيه وعن زوجته، كما تفعل الرحلات دائماً، إذ يقول في وصفها «بدا لي، فيما كنّا نقوم بزياراتنا ونعبِّئ السجلات التي نحتاجها، بأنني لم أكن أنتقل عبر المناطق، وإنما كنت أنتقل في ماضيَّ الذاتيّ».
ليست هذه الرحلة سياحةً أو ترفيهاً، بل لإجراء إحصاءٍ أو تعدادٍ لسكّان عددٍ كبيرٍ من القرى الصغيرة المبعثرة باتجاه الشمال، وتبقى بدورها بلا أسماء. إذ كانت السلطات تُجري هذه العملية كل فترة، بحيث يمرّ على الفرد في حياته عدد من الإحصاءات، تترك آثارها وسوماً على جلده، علامةً على إدخال بياناته في السجلات الرسمية.
غيرُ مفهومٍ سبب اختيار الكاتب لهذا العمل كي يجعل الطبيب يقوم به، متّخذاً إياه ذريعةً لتنقّله، لكن من الواضح أنَّ لديه معلوماتٍ وافيةٍ عنه، إلى درجةٍ تجعله ينجح في شرح أشياء أخرى من خلال مقاربتها بعمل التعداد.
يلتقي الطبيب خلال عبوره القرى والبلدات الفقيرة بنماذجَ عديدةٍ من البشر، يغلب عليهم البؤس والوحدة: سكّيرون ومجرمون وعُجَّزٌ متروكون، عمّال في مهنٍ بمخاطرَ عالية، كالعاملين في مصنع الحبال الكبير، الذي تجاوره مقبرةٌ تقارب مساحته، وآخرون عاطلون من العمل في بلداتٍ تموت بعد استنفاد ثرواتها المنجمية.
تبدأ الرواية من نهاية الرحلة، بوصف الأب جدران القبر الذي حفره لنفسه


بعض السكان يرفضون إجراء التعداد، والبعض الآخر يرحّب بالموظف ويتعاطف مع ابنه، بخاصّة السيدة التي كان لديها ابنة مصابة بـ «متلازمة الحب» كما تُسمّى، مثل «ولده» الذي ما زال يعلّق صورة الفتى الذي ظل يأتي إلى بيتهم يومياً لأسابيع متتالية من أجل اللعب معه، على الرغم من أنه انقطع عن زيارته سريعاً ومنذ زمن.
مع أنَّ الطبيب يقوم برحلته الأخيرة، التي يودّع من خلالها ابنه، إلا أنَّه حافظ على روح المرح على امتدادها، رغم أنَّ أعراض مرضه اشتدّت عليه مع تقدّمه فيها. والأهم أنّه بقي مُصرّاً على معاملة ابنه كشخصٍ طبيعيٍّ كامل الوعي والإدراك؛ إذ كَاشَفه بحقيقة مصيره منذ ما قبل انطلاق الرحلة، موضحاً له أنّه في نهايتها سيختفي إلى الأبد كما حدث لأمّه. بل حدَّد له أن المشكلة في القلب، وراح يشرح له عمل القلب وأهميته في حياة الإنسان. أشياءُ لن يفهمها الولد كما يعلم أبوه، لكنّه يخبره بها، كما جعله يقود السيارة، وتبادل معه الأدوار في بعض البيوت، فصار مساعداً له في عملية الإحصاء، تاركاً له أن يسأل الأشخاص بلغته، ويسجّل بياناتهم بأبجديته الخاصة. وفي النهاية أرسله بالقطار وحيداً في رحلة العودة، حيث أوكل أمر رعايته إلى امرأة من معارفه. كانت لديه خطةٌ مع زوجته تقتضي بأن يُنهيا حياتهما مع ابنهما في وقتٍ واحدٍ، لكنّها تعطّلت بالموت المفاجئ للزوجة. بعد إرساله في القطار، راح يحاول تخيّل مستقبل حياة ولده الوحيد، لكنه لم يستطع أن يرى سوى موته.