لمن يلجأ الشاعر كي يحصل على حكم على نصه؟ أيذهب إلى الناقد، أم إلى الجمهور؟ هل يقصد أصدقاءه؟ أم أن من الأفضل له أن يأخذ رأي زوجته؟تبعاً لتجربتي الشخصية، فلا أحد يستطيع أن يعين الشاعر أو ينفعه في هذا الموضوع. فهو منتج النص، وهو ناقده الوحيد.
يمكن للناقد أن يضع نصاً في سياقه، أن يفك رسائله الاجتماعية، أو أن يفكك بنيانه. لكن عند التقييم، فالأمر يتعلق بالشاعر فقط. فهو لا يستطيع أن يثق بالنقد سواء قيّم نصه عالياً أو سافلاً، غالياً أو بخساً.
لا أحد يملك أن يحكم للشاعر على فعل يديه. هذه مهمة الشاعر. فهو من يملك الحكم. وهذا أمر خطر بالطبع. فعند نهايته القصوى، يمكن لكل شاعر أن يعطي نصه علامة ممتازة، بحيث يصبح كل نص جيداً، وبحيث لا يمكن تفضيل نص على نص، ولا شاعر على شاعر. فالكل على الدرجة نفسها.

راين ستيدمان ـ «شكّ» (زيت على كانفاس ـــ 35.6 × 27.9 سنتم ــ 2018)

مع ذلك، ورغم هذه الخطورة، فأنا لا أستطيع الركون إلى رأي النقد في نصّي. فليس هناك من مبرر كاف كي أقبل هذا الرأي، كما أنه ليس هناك من سلطة تلزمني بقبوله. عليه، فأنا الوحيد الذي أملك أن أحكم على نصي. أي أن الشاعر مثل إله العهد القديم الذي نظر إلى صنع يديه فرآه حسناً: «ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً» (تكوين: 1: 21). لقد خلق الله وحده، وقيم وحده. ذلك أنه لا يثق بآراء من خلقهم، كما أنه لا توجد آلهة أخرى لكي يستأنس برأيها. إنه الوحيد في السماء. لذا فهو الصانع والناقد معاً.
وبما أن الشاعر ليس إلهاً، فهو، رغم أنه الوحيد الذي يملك حق الحكم على نصه، ليس قادراً على الوثوق بما صنعت يداه كما هي حال إله العهد القديم. فالشك سوف يحوم، دوماً، على عقله وقلبه في ما يخص نصه، وفي ما يخص حكمه على هذا النص. إنه الحكم الوحيد على نصه، لكنه الشاك الأكبر في حكمه. وضمن هذا التناقض يكتب ويتمزق ويعيش: كيف أثق برأيي في نصي؟ ومن قال إنّ رأيي ليس منحازاً؟ وما أدراني أنني لا أنافق نفسي وأخدعها؟ ثم ما أدراني أنني أتخلف عن الركب، وأن أحكامي أيضاً تتخلف عنه؟ هذه هي تساؤلات الشك، التي يرد عليها بإجابات تزيد الشك وتضاعفه.
ليس من تأكيد. ليس من سند سوى الحدس.
أنا أحدس أن قصيدتي جيدة، وأنها أفضل من سابقاتها. الحدس وحده أداتي. والحدس إحساس وليس برهاناً. لذا لا يمكن الركون إليه. لكنه الوسيلة الوحيدة التي أملكها. ولأنه كذلك، فإن عليّ أن أرعاه وأن أشحذه دوماً. وشحذه يقتضي اليقظة. يقتضي نقد الذات وجلدها. فعلى الشاعر أن يحمل بيده السكين التي يذبح بها نفسه وقصائده، إذا أراد أن يتكوّن لديه حدس معقول. عليه أن يكون قاسياً على ذاته- رحيماً بالشعراء الآخرين- لأنه لا يقدر أن يتصرف مثل إله العهد القديم، الذي لا يعتريه الشك في ما يخص خلقه مطلقاً.
وثَمّ شعراء لا يقدرون على أن يبنوا لأنفسهم حدساً. فكل ما يكتبونه جيد ومقبول. هؤلاء يصلون في العادة إلى الهذر. لكن الشعراء الذين يحاولون شحذ حدسهم هم أيضاً بلا ضمانة كاملة. فمرور العمر، والحاجة إلى الاعتراف، قد يوصلا إلى نفاق الذات. ونفاق الذات قد يأخذ شكل تلقي مديح الآخرين. هذا المديح يتحول، عند لحظة محددة، إلى طراز من مديح الذات، أي نفاقها. فبدل أن تمدح ذاتك، تسعى للحصول على مديح الآخرين. وحين تصل إلى هنا، تصبح مهدداً بالهذر. وأمل كل شاعر أن لا يصل إلى هذا الحد. وخوفه الدائم أن يصل إليه.
وقد زاد الطين بلة أن الأزمنة الحديثة ذاتها تطالبه بتجاوز نفسه دائماً. فالقصيدة القادمة يجب أن تكون أفضل من سابقتها، والديوان الثاني يجب أن يتجاوز الأول ويتقدم عليه، وهكذا. لم يكن الأمر كذلك في الماضي. فلم ينظر المتنبي إلى شعره كسلسلة من القفزات والتراجعات. الشاعر في هذا الزمن تحت السوط. إنه يرقص كما رقص المتسابقون في فيلم «إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟». إن عليه أن يرقص من دون توقف، وأن يتقدم بلا هوادة، وإلا أطلقت عليه النار.
الشاعر مثل إله العهد القديم الذي نظر إلى صنع يديه فرآه حسناً: «ورأى الله كل ما عمله فإذا هو حسن جداً»


الشاعر، إذن، مثل الشاطر حسن، ينام في بيت الغولة. وحين تسكن هذا البيت، فإن عليك أن تفعل كما فعل الشاطر حسن: قرط بأضراسه الفول اليابس، واستلقى تحت قربة تقطر ماء بارداً كي يظل صاحياً. فالنوم ممنوع في بيت الغولة. النوم هناك موت محقق. والشعر بيت الغولة.
لا أحد يملك أن يقيّم نص الشاعر. وهذا لن يغضب النقد الحديث. فهو ذاته لم يعد راغباً في أن يقيّم. لقد وضع التقييم خارج مهماته. إنه ينفر من أن يصدر حكماً، من أن يقول: هذا جيد وهذا سيء، بل يرغب في أن يتفرغ لكشف رسائل النص وطريقة بنائه لذاته. لم يعد الناقد راغباً في أن يحل محل إله العهد القديم ليقول: هذا حسن. لقد تخلى عن هذه المهمة. ليس لأن الشاعر لن يقبل بحكمه، بل لأن الناقد لم يعد يقبل بالجري وراء الشاعر كي يقول له: أحسنت أو أسأت. فهو يظن أنه ينشئ نصاً يقف على قدم المساواة مع نص الشاعر، إن لم يكن أعلى شأناً. وهكذا غرق الشاعر في ثلوج وحدته، ودار نصه في الفراغ. فلا هو مستعد لقبول حكم النقد، ولا الناقد نفسه على استعداد لأن يصدر حكماً.
الشاعر الآن مثل حاكم مطلق يشك في أولاده وقادته وأتباعه وشعبه، مدركاً أن ليس له إلا نفسه كي يعتمد عليها. غير أن على الشاعر، مختلفاً عن الحاكم المطلق، أن يشك أيضاً في هذه النفس، وفي قدرتها على الحكم.

* شاعر فلسطيني