تتعامل فاطمة قنديل (1958) مع الكتابة كـ«طاقة» لا يجب تبديدها بلا هدف أو استنزافها في معارك جانبيّة. تكتب لأن ذلك هو ما تُجيده في الحياة. تُعتبر قنديل من أهم شاعرات الثمانينيات والتسعينيات، رغم أنها لا تعترف بفكرة الأجيال، ورغم أن معاركهم لم تشتّتها يوماً. التجريب والمغامرة كانا بوصلتها الوحيدة في مشوار الكتابة. بدأت رحلتها بكتابة شعر العاميّة في ديوانَي: «عشان نقدر نعيش» (1984)، تلاه «حظر تجوّل» (1987)، فضلاً عن تجربة مسرحية بعنوان «اللّيلة الثانية بعد الألف» (1990). نشرت بعد ذلك مجموعتها «صمت قطنة مبتلّة» (1994) بالفصحى وبدأت تجربتها مع قصيدة النثر؛ حيث واجهت الكثير من التزمّت، خصوصاً مع الهجوم الواسع الذي تعرّضت له بعد إلقاء «قصائد إيروتيك» في باريس، ما أدّى إلى تأخّر نشر مجموعتها «أسئلة معلّقة كالذبائح» لثماني سنوات هي الفترة التي انقطعت خلالها عن الكتابة، وعانت كثيراً بسبب ذلك. تُعتبر صاحبة «بيتي له بابان» (2017)، وظيفتها كأستاذة جامعية في كلية الآداب «ظهر السلحفاة» الذي يحميها كشاعرة في مجتمع «يسحق الشعراء» بحسب تعبيرها. وفي «أقفاص فارغة» الصادرة أخيراً عن «دار الكتب خان»، يبدو أن قنديل قرّرت خوض مغامرة جديدة صنّفتها كـ«رواية»؛ لكنها تحكي على صفحاتها بـ «أنا المتكلم» سيرتها التي يختلط فيها الواقع بالخيال. داخل النص، سخرت من زميلها الذي أخبرته بأنها تنوي كتابة «مذكّراتها»، فنصحها بأن تكتب بضمير الغائب، فردّت عليه: «الحضور الكامل هو كلّ ما أحلم به». لكن ما يدعو للتساؤل أنها ذيّلت عنوان الرواية بعبارة: «ما لم تكتبه فاطمة قنديل». تعقيباً على هذه العبارة، تقول قنديل في مقابلتها مع ملحق «كلمات»: «ربّما تفهم بأنّها تبرّؤ من العمل، لكن ما قصدته أنني عند وصفي مثلاً تجربة مرض أمي في الرواية، فإن هناك أشياء لم أكن أقدر على كتابتها مطلقاً، حتى عندما تطرّقت لتلك التجربة في «أسئلة معلّقة كالذبائح»؛ كنت أستطيع الهروب في الشعر بالاستعارات أو حتّى بإنهاء النص». أما «أقفاص فارغة»، فهو ما لم تكتبه قنديل بهذه الطريقة والوضوح والصراحة من قبل، هو: «ما لم أكتبه في شعري وهو ما يحقّق الحضور الكامل بالتحديق في الأشياء»
كنا في بداية سياسات الانفتاح في السبعينات حيث يتم سحق الشعراء والسخرية منهم (منى عبد الكريم)

يُعطي كتاب «أقفاص فارغة» انطباعاً بأنه «نص مؤجل»، وربما ظهرت هواجس كتابته في «أسئلة معلّقة كالذبائح» لما تضمنه من كتابة حرة، هل هذا الانطباع صحيح؟
ــــ كلا، إنه نص مؤجل لناحية النشر فحسب، لكن على صعيد الكتابة كان نصاً مباغتاً بالنسبة لي، إذ لم أكن أتخيّل كتابة هذا النص على الإطلاق. كنت مشغولة بالتحضير لمجموعة شعرية جديدة ولا أزال، لكنني وجدت نفسي أمام تجربة محورية بالنسبة لي وهي وفاة أخي، ما وضعني وجهاً لوجه أمام الخيط الوحيد الذي يربطني بفكرة العائلة والأسرة.
وقبل ذلك، كنت متّهمة طوال الوقت بأنني بلا ذاكرة، أسمع الكثير من المواقف المشتركة مع أصدقائي كأنني أسمعها للمرة الأولى، والحقيقة لا أعرف إذا كان ذلك تجاهلاً للتجارب أم رغبة في تجاوزها، المؤكّد أنها حيلة نفسية تراكمت وجعلتني في النهاية «بلا ذاكرة».
فكرة الموت وضعتني أمام فكرة موتي أنا. هذا ما يولّد الرغبة في قول كل ما يمكن قوله عمّن عرفتهم، وعن تجاربك الشخصية بالطبع مع جانب كبير من التصرف. أعترف أن هناك وقائع غير دقيقة بالمرة لكن جميعها كتبت بـ «أنا المتكلّم». لقد كتبت «أقفاص فارغة» خلال أربعة أشهر فقط، وهذا كان أمراً غريباً جداً، عندما وجدت نفسي أكتب شكلاً من أشكال الخواطر بتدفّق شديد، مستعيدةً الكثير من المواقف والحكايات خاصة خلال الطفولة، كنت أظن أنه من المستحيل تذكّرها، وهنا قرّرت تعميق تلك الشخصيات والأحداث المبعثرة، وهنا تدخّل الخيال لـ«ترميم الذاكرة». هناك شخصيّات قمت ببنائها من اللّاشيء، ومددت خيوطاً درامية لشخصيات أخرى لتخرج في النهاية كرواية.

هل كان الانتهاء من النص محكوماً بالتزام زمني؟
ـــ لا، كتبت مثلاً الفصل الأخير «الغائب يعود في موعده» وبعدما قرأته صديقة لي، لفتت نظري إلى أنه مكتوب بشكل ميلودرامي. وفي يوم عيد ميلادي عام 2019، الذي أحب أن أحتفل به، ويرجع سبب ذلك إلى أن والدتي توفيت يوم ميلادي، ومن يومها قرّرت الاحتفال بعيد ميلادي دائماً، لأهرب من فكرة موتها... المهم، في ذلك اليوم لم أحتفل وشعرت باكتئاب فنمت، لكنني استيقظت بعد أربع ساعات فقط على غير العادة، وجلست ثماني ساعات أعيد صياغة ذلك الفصل بدون توقف. وكان هذا أسعد عيد ميلاد مررتُ به منذ فترة طويلة لأنني استقبلته وأنا أكتب بحرارة ويومها كتبت كلمة «النهاية».

تتحدّثين دائماً عن إيمانك بضرورة إزالة الحواجز بين الفنون وأنك تكتبين «نصاً مفتوحاً»، فلماذا لم تتمرّدي على تصنيف «أقفاص فارغة» كرواية؟
ـــ يرجع ذلك لأسباب عدة، أولاً قمت بمراجعة نفسي في كثير من الأفكار، خصوصاً أنني لست ممن يتمسكون بفكرة واحدة طوال الوقت. كما أنني شخص لاقى كثيراً من العنت في تقبّل ما يكتبه، بوصف كتابته تدل على حياته الشخصية وهذا لم يكن كلّه سليماً. مثلاً، عندما كتبت قصيدة عن الخمر، فُهمت أنني أصف الخمور، لكنني كنت أصف النقطة الأخيرة التي تبقى في زجاجة الويسكي وهي أحد أهم ملامح الكتابة الصوفية. لكن لدى قراءة القصيدة في الأوبرا، انتهى الأمر في خناقة داخل القاعة. وبالعودة إلى «أقفاص فارغة»، بالإضافة إلى أنني أحب إزالة الحواجز بين الفنون، فأنا أيضاً شخص يحب المغامرة، واكتشاف مناطق جديدة. وعادة في مجتمعاتنا العربية، يكون صعباً على الكاتبات اختراق هذه المناطق.
ومن حسن الحظّ أن المجتمع المصري بكل مشاكله «هتلاقي فيه حد يدافع عنك». فهناك مَن يمكن أن نسمّيهم «بقايا ليبراليين»، والحقيقة أنني لو كنت أكتب في بلد آخر، لا أظن أنني كنت سأقدر على الصمود لصعوبة الضغوطات، خصوصاً أنني رأيت صديقات لي في بلاد عربية، ربما يمتلكن موهبة أكثر مني، إلا أنهن يعشن معاناة كبيرة، بسبب الحواجز شديدة القسوة. لكن في كتاباتي، أو في كتابات إيمان مرسال وهدى حسين مثلاً، تجد هناك قدرة على الانفلات من الحواجز والقيود... هذا ما يُعيدنا إلى الفكرة الرئيسية، وهي رغبتي في المغامرة.
الأجيال الجديدة في الكتابة أكثر شجاعة منّا والشاعرة الأفضل لم تولد بعد


ألم تقتضي هذه المغامرة الإعلان بشكل صريح أنك تكتبين سيرتك؟
ـــ هي ليست سيرة تماماً، بل نص يقع بين السيرة والرواية. بصراحة كان اسمها الرئيسي «سردية أقفاص فارغة»، لأنني لو حاكمتها بقواعد السيرة من منظار النقد، فلن تكون سيرة، وأيضاً لو حاكمتها تحت الطابع الروائي، سأعثر فيها على مشاكل. كان يُفترض أن يكون اسمها «سردية» لكن ربما لم يكن القارئ ليفهم ذلك، كما أنني كنت أخشى أن يتم تقبّلها بصفتها شعراً سردياً. لكن تصنيفها كرواية ليس خوفاً من شيء محدّد بقدر ما هو رغبة في تلاشي المعارك الصغيرة التي يمكنها التشويش على تلقّي الكتاب، كأن يكتب أحدهم بشكل جدلي عن تصنيف العمل، فلا يُقرأ العمل أو تتم قراءته بدافع البحث عن مقولته.

يظهر من كلامك وجود خوف دائم من الانطباعات تجاه كتابتك.
ـــ طبعاً، ليس خوفاً فقط، بل كنت مرعوبة. أرغب في حماية نفسي وكتابتي، لأنني عشت عمري للكتابة، وأي ضربة لها تهز وجودي كلّه، فالكتابة بالنسبة لي ليست ترفاً زائداً في حياتي. عند تقييم حياتي كلّها، لا أقدر أن أقول سوى أنني «كنت أكتب»، وبالتالي الانطباعات حول ما أكتب مهمّة جداً عندي، بالإضافة طبعاً إلى أنني من برج الأسد «بحب الناس تقوللي: برافو وشاطر».

جوابك مفاجئ، كنت أظن أنك تكتبين من دون الانشغال بكل ذلك
ـــ الحقيقة هناك مرحلتان مهمتان: الأولى تشتمل على فترة الكتاب، وهي التي لا أعبأ ولا ألتفت خلالها إلى أي شيء سوى كتابتي. بعد الانتهاء من الكتابة، أعود «فاطمة التي تتلقّى الضربات»، فأثناء كتابتي أنا شخص آخر، شخص مختلف تماماً.

قلت إن الكتابة لصيقة بك وليست ترفاً في حياتك، فكيف يتم هذا الفصل؟
ــ يمكنني القول إن حياتي كانت تحضيراً للكتابة، لكني بدأت بتغيير ذلك. في السابق، كنت أبدأ منذ استيقاظي وحتى يحين موعد نومي، أتفرّغ لتأمّل الكون من حولي، لأكتب منه شعراً سواء من علبة السجائر أو من طبخة أعدّها. كان هاجس كتابة الشعر ملازماً لي طوال الوقت. مع الوقت، بدأت أدرك أنه من الضروري أن أعيش حياتي، ببساطة ما بات يهمّني عندما أقف في المطبخ هو أن آكل لا أن أكتب شعراً. أحاول القيام بذلك للتغلّب على حالة التوتّر الدائمة التي كنت أعيشها.
عندما مرّت عليّ سنوات لم أكن أكتب فيها، كنت من أكثر البشر تعاسة في العالم. فاكتشفت أن الشاعر يحتاج إلى «حياة بديلة» فإذا ضاع منه الشعر وهذا أمر وارد جداً بالمناسبة؛ لا يكون مصيره الدّمار حينها. والعمل في الجامعة يعطيني هذا الشعور بأنّ لدي دوراً ثانياً أقوم به وإن لم يكن هو الأهم طبعاً. عموماً، تبقى كلّها محاولات وحيل لـ«صيانة الذات» بتعبير محمود درويش.


في النص يبدو كأنّك تجيبين على سؤال: «هل تخلت فاطمة قنديل عن الشعر لتكتب رواية»، خصوصاً حين قمت بالتأكيد، داخل النص، في وجه خالك «أنا شاعرة». ما هو الشعر بالنسبة لك؟ وكيف تمسّكت به في هذه الظروف الصعبة؟
ــــ كنت أقول لخالي إنّني شاعرة لإحساسي بقيمتي في الحياة لكن بالنسبة للمجتمع لا قيمة للشعر. بدأت كتابة الشعر وأنا بنت الطبقة المتوسطة حيث الثقافة شكّلت جزءاً مهماً في حياتنا. أمي كانت تكتب وهناك تشجيع دائم من إخوتي، لكن في الوقت نفسه كنا في بداية سياسات الانفتاح في السبعينيات حيث يتم سحق الشعراء والسخرية منهم، وفي المقابل كانت بنات ذلك الخال يعملن في الفنادق ويحصلن على رواتب محترمة.
بالمناسبة، لعب هذا الموقف دوراً كبيراً في حياتي، فالانتقال من الشعر إلى المجال الأكاديمي كان بسببه. أدركت حينها أنّه لا بد من الحصول على وظيفة ما إلى جانب الشعر.
ولولا أنني أصبحت أستاذة جامعية؛ كنت متُّ كشاعرة من زمان. فمن غير المنطقي والمضحك أيضاً وسط كل تلك التحولات إلى الرأسمالية أن يسألك أحد عن وظيفتك فتقول «شاعر».. هذا كان يحدث فقط أيام أمل دنقل والأجيال التي تسند بعضها. لذلك كانت وظيفتي في الجامعة أشبه بظهر السلحفاة بالنسبة إليّ حيث أحتمي به.

ما الذي جعلك تتمسّكين بالشعر إذاً؟
ــــ لأنني شاعرة وهذا دوري في الحياة، لكن في هذا المجتمع لا يمكن أن أكون شاعرة فقط، ولو لم أكن أستاذ جامعة، لأصبحت صحافية أو كنت التحقت بأية وظيفة أستطيع أن أوردها في البطاقة، لأنني ببساطة لا أقدر أن أكتب «شاعرة» في خانة الوظيفة. في المقابل، أعرف بيني وبين نفسي أن الشعر هو الوجود بالنسبة لي، إذا لم أكتب سأموت، ولا أقدر على فعل شيء آخر.

هل كان الأمر واضحاً بالنسبة إليك منذ بدأت كتابة الشعر بهذا الوعي؟
ــــ عندما بدأت بكتابة شعر العامية، استقبلني الوسط الثقافي بحفاوة باعتباري «بنت حلوة بتكتب»؛ وقتها اتخذت قراراً بيني وبين نفسي بأنني لن أكون مجرّد فتاة تكتب بل سأكون في الصف الأول من شعراء العالم العربي؛ كان هذا قراري وسعيت إليه وبذلت من أجله كل جهدي. ومن التجارب التي أريد الكتابة عنها مثلاً أنني كنت أنسخ دواوين الشعراء، لأنني كنت جاهلة وقتها؛ أحضرت كل دواوين الشعراء الكبار: بودلير ورامبو وريلكه وإليوت.. وكان لديّ طقس أن أوقد شمعة وأجلس مثل الكاتب القديم لنسخ الديوان في كرّاسات بخطي، وبهذه الطريقة كنت أستحضر أرواحهم. كانت هذه التجربة مهمة بالنسبة إلي، وبعد ذلك دخلت الجامعة لدعم موهبتي وقراءاتي بشكل أكبر.

بين السطور وضعت ما يشبه الإحالات لنصوصك ودواوينك السابقة، ما سبب ذلك؟
ــ جاء الأمر بشكل عفوي، ولو ألقيت نظرة على السرد في «أقفاص فارغة» رغم أنه شديد الوضوح؛ فإنه مكتوب بشكل شعري، وبالتالي هناك تفاصيل ذكرتها مثلاً في ديواني «صمت قطنة مبتلة»، قمت مجدّداً بالإحالة إليه خوفاً من التكرار، لكنني لم أضع إشارات لذلك، من قرأني فقط هو الذي يلاحظ ذلك.
كل محاولات الانتحار لم تكن سعياً إلى الموت بقدر ما كانت هروباً من الحياة


يحمل النص زيارات متعدّدة للموت كأنك طيلة حياتك كنت تتدرّبين على الفقد، وهناك أيضاً زيارات غير مكتملة منك في محاولات الانتحار. ماذا عن نظرتك للموت خصوصاً بعد النجاة منه عدة مرات؟
ــ عندما يكبر الإنسان، يصبح الموت هاجسه اليومي، فكل محاولات الانتحار لم تكن سعياً إلى الموت بقدر ما كانت هروباً من الحياة.
أعتقد أنني متصالحة مع فكرة الموت، وهذا سبب في أنني لا أترك جذوراً عميقة في الحياة. مثلاً اتخذت قراراً بألا يكون لدي أولاد، وبالتالي يكون رحيل الإنسان سهلاً وخفيفاً من دون إزعاج الآخرين. لا أخاف منه، ولكنني أحاول إغلاق حساباتي في الحياة كلما أصبح ذلك متاحاً.

وما هو تعريف الخوف بالنسبة لك الآن؟
ـــ أستعين بتعبير صلاح جاهين: «كأنه كلب سد الطريق... وكنت عاوز أقتله بس خفت». هذا هو الخوف بالنسبة إلي، لكنني لا أستطيع تصنيف نفسي كشخص جبان، فمثلاً لم أغلق الأبواب والنوافذ بالحديد كما فعل جيراني في البيت السابق. أؤمن بالقدر كثيراً كما علّمتني أمي. في السابق، كنت أخاف مثلاً عدم التحقّق كما ذكرت، لكني بتّ أخاف الآن من المرض والألم أو أن أفقد شخصاً عزيزاً. أتعامل مع الخوف في حياتي دائماً كعدو، لا بدّ من أن أتخلص منه، لأنني أعيش بمفردي ولو استسلمت لفكرة الخوف فسيكون قفلاً لا يمكن إغلاقه.

تصفين الكتابة بأنها «صيد» وربما يتناسب ذلك الوصف كثيراً مع الشعر كـ «فن تكثيف اللحظة»، لكن هل يتناسب هذا مع السرد أيضاً؟
ـــ الصيد هو استعارة لا أقول مصدرها، ففي ديواني «أسئلة معلقة كالذبائح» كان مجرد إطار ولم يكن هناك أي صيد. وبصراحة تأثّرت كثيراً بـرواية «العجوز والبحر» لهمنغواي، واستعارة الصيد تأتي بهذا المعنى، ليست بمعنى القنص ولكن بمعنى الرحلة نفسها وحالة الحياة والإبحار في المجهول.

في ديوانك الأخير «بيتي له بابان»، تصفين الكتابة بأنها «زوجة أب»، وفي المقطع نفسه تكملين: «أحياناً أبكي.. لا لشيء.. إلا لأنها علمتني كل هذه القسوة»، فكيف ارتبط مفهوم الكتابة لديك بالعنف والقسوة؟
ـــ لأنك كلما سخرت؛ كلما أصبحت عنيفاً. وأنا شخص ساخر، وأعتبر السخرية سلاحاً. وبالطبع علّمتني الكتابة القسوة، ربما لم أدرك ذلك في بداياتي لكنها الحقيقة، حيث علّمتني التحديق في الألم والأشياء والسخرية، أو حتى حين أبتر الجملة، فالكتابة بهذا المعنى عنف رمزي، والشعر عنيف.

كيف تطوّر عندك مفهوم الكتابة طوال ما يقرب من الـ 40 عاماً؟
ـــ لم أتأمّل ذلك بعد، أنا مشغولة بالتجريب الآن، وأعرف الأدوات التي يمكنني استخدامها وما ينقصني منها. فالكتابة بالنسبة إلي حالة تخزين وتوجيه، حيث أدخل في حالة حوار مع اللغة والتقنية، ربما أحتاج إلى مغامرتين أو ثلاث لرصد ذلك التطور.

ننتمي إلى ثقافة اعتبرت الكتابة طوال الوقت نوعاً من الإلهام، لكنك دائماً ما تعتبرين الكتابة تقنية وصنعة.
ـــ طبعاً هناك توجيه للطاقة، أنا مثل النجّار هو يستخدم المنشار بينما أستخدم القلم. النجار الشاطر يُنتج نصاً جميلاً، والكاتب الشاطر يُنتج نصاً جميلاً أيضاً. أنا أحب تسميتها طاقة لا موهبة، وعلينا توجيهها بشكل جيد ومكثف، فضلاً عن عدم استنزافها في أشياء لا طائل منها.

أثناء توقيع الرواية قلت: «أريد فتح طريق مختلف لجيل جديد»، هل أنت مشغولة فعلاً بجيل جديد من الكتاب؟
ــ إلى حد ما أنا مشغولة بذلك، رغم أني لا أقوم بمحاولات كبرى في سبيله. لكن عندما أجد نصوصاً جيدة أنشرها على صفحتي على فايسبوك وأبلغ أصحابها تقديري الشديد لهم، وأسعد كثيراً بالأسماء الجديدة وأغلبهم شاعرات. كل ما أستطيعه هو أن أفتح الطريق بكتابتي للأجيال الجديدة، أو أن أخلق مساحة أكبر للبوح في الكتابة. والحقيقة أن الجيل الجديد أكثر شجاعة منا. أنا متفائلة بأن القادم أفضل من الآن، وأن الشاعرة الأفضل لم تولد بعد.