البيت - مدينة yesالجمعة 12 تشرين الأول، XXAX
11:40 ليلاً

ستة.
ناديتها لكنها لم تسمعني. لا وجود لها. ما عادت من الأحياء. تلاشت. تبخّرت في لحظات، لتبرهن على هشاشة العالم. بعد ذلك الحوار الغاضب، المجنون، انسحبتُ من الصالة، ودخلت المطبخ لأشرب كوب ماء. عندما عدت وجدتها ترسم في كرّاستها. كانت منهمكة ترسم عيوناً كبيرة. بدت لي من فرط تركيزها منغمسة في عالم آخر. تمسك قلم الرصاص بيد مرتعشة، وجهها أحمر، وأنفاسها متسارعة. كانت ترسم بطريقة مجنونة لم أرَ مثلها في حياتي. توقفتُ عن المشيِ. تصلّبت. ارتعدت لاإراديّاً، وبحلقت فيها بعينين مذهولتين. سرت قشعريرة في جسدي. «6» تأخذ رسوماتها على محمل الجد. لديها رغبة محمومة للعيون. كائن متوهّج، هذياني، بفوران دمه، وتفجّر مشاعره، بأصابعه المتعرّقة يرسم بافتتان عيوناً شيطانية. اقتربت وأنا أشعر بهاجس غامض، يتفتّق داخلي، خليط خوف ورغبة. لم يقطعها عن الرسم أي شيء، كانت غائبة في عالم بعيد طيفي سحري. مشهد مأتمي، متلوّن بالرعب، قلِق من التلاشي. مستسلمة لقدر تراجيدي، وبشغف رومانسي تتشرّب التصورات الكئيبة والخيالات والأحلام والهذيانات، مثلما تتشرّب الأرض أجساد الموتى.
بقيت صامتة طوال عشر دقائق، لم أتلفّظ بكلمة واحدة. لم أملك الجرأة. لكنّي لم أطق البقاء جامدة كتمثال.
ـــ معذرة، هل أنت بخير؟
لم تجب. فقلت لها بإصرار:
ـــ 6، هل أنتِ بخير؟ أرجوكِ.
لا شيء. كلماتي لم تصل إليها. أسرعت نحوها. نفضتها من كتفيها. صرخت في وجهها، وصفعتها أكثر من مرة. لم تبدر منها أي حركة. لم تنطق بحرف واحد. كانت عيناها تتفرّسان العالم في شرود. بدت لي أنها فقدت روحها. كان خاوياً وبارداً جسدها. وقفتُ أمام النافذة. أشعلت سيجارة. نظرت إلى جمرتها المرتعشة في الظلام. قلت دون أن ألتفت خلفي:
ـــ اسمعي. أريد أن أقول لكِ شيئاً. أعرف أنني سخيفة وجبانة. أعرف أن الشجاعة ليست لديَّ لمواجهة حقيقتي. هل أنا مجرد شخصية في نص روائي؟ تقبّل الفكرة ليس سهلاً. تدرين، طالما كنت أشعر أنّي لعبة أو أداة عند الآخرين. وأبعد من ذلك، ثمة قوى أشعر بها تتحكّم بي، تخضع حياتي لمعاييرها. تراقبني عيون كبيرة مثل تلك التي ترسمينها. قد أبدو لك مجنونة، ماذا بوسعي أن أفعل؟ كل هذه الأشياء الغريبة التي تحدث. كلماتك كانت المسمار الأخير في تابوتي. لمستِ حقيقتي. كلماتك قاسية. لي مكان في هذا العالم، مهما كانت طبيعته. أنا متيقّنة. هل كل شيء على ما يرام؟ لا. أشعر دوماً أنّي هناك ولست هنا، لكني ما زلت واقفة على قدميَّ. كل شيء من حولي ينهار، وحبل الندم يلتفّ حول عنقي. الندم الوهمي على ذنوب لم أرتكبها. دبابيس صغيرة تثقب روحي. يتعبني تكرار الأيام وما تحمله من أسئلة. عصافير في الرأس. أريد أن أستشعر لحظة سكينة واحدة، اللعنة عليّ.
طريقتي في الحديث أخافتني. هذا التكرار المجنون للعبارات. هذا الإيقاع المحموم في قول الأشياء.
ـــ ماذا تتوقّعين؟ أنا أعيش وحيدة. لا أتكلم إلا مع الغرباء. منذ سنوات قطعت علاقتي بالبشر. أنتِ. كنتِ مختلفة. أحببتك ووثقت بك. أعترف أنك نقطة ضعفي. هذا لا يعني استغلالك لي. أريد أن أطلب منك أمراً. لا تتحدثي في ذلك الموضوع مرة أخرى. أرجوك. لنعش دون تلك الأفكار. أنا حقيقية بلحم ودم، لست شخصية في كتاب. منظر الغروب يجرحني. أنتشي بالمطر الخفيف. أعشق التفاصيل الصغيرة. أنا حقيقية. يوم أمسكتِ يدي شعرت بالحياة تمر من قلبي. أول مرة أشعر فيها أنني لست وحيدة وضائعة. هذا ما كنت أحتاج إليه. يد صديقة تنتشلني من عمق الخراب. ألسنا صديقتين؟ لا أفهمك. فقدت أمي وأنا الآن فقيرة برائحتها، لا أملك غير قبلات قليلة، وجوع كبير للحديث معها، وذكريات: أصابع مرتعشة تبحث عن حبة الدواء بجانب السرير، وعناء المشي في الصالون البارد، ونظرات شاردة من عينين غائمتين بالدموع. بكيت يوم وفاتها من شدة العطش والاحتياج، رأيت العالم يهوي من السفح. بعدها تعمّق ضياعي.
صمت مطبق. كأني وحيدة في المكان، لا صدى لصوتي. واصلت ثرثرتي محاولة تغيير سياق الكلام:
ـــ سأروي لكِ حكاية. لا أدري ما علاقتها بما نحن فيه. أرغب فقط أن أقصّها عليكِ. ذات مرة حين كان طفل قروي يلعب في الحقل المجاور لبيته، شاهد فراشة بيضاء صغيرة الحجم. كانت فراشة عادية مثل تلك الفراشات التي تنتشر في الريف. ركض خلفها ساعات محاولاً اصطيادها. أخيراً حين استطاع الإمساك بها، تأمّلها طويلاً. شعر بجناحيها الرقيقين يخفقان بتوتر. التصق دقيق الجناحين بأصابعه. بعد دقائق سكنت الفراشة في يده، فأدرك أنها ماتت. عاد الطفل إلى بيته حزيناً. سأل والدته: هل يجوز قتل الفراشات؟ فأجابته: بالتأكيد لا، إنّ لديها روحاً. أحسّ بالذنب ينهش داخله. لم يكن يعرف ما معنى ذنب، أو ضمير، أو أخلاق، أو رحمة، إلا أنه كان قادراً على الإحساس بها. بمرور الأيام ساءت حالته الصحية. عانى من الحمى، والأرق، والكوابيس. حاول الأطباء تشخيص مرضه. جرّبوا كل الأدوية والحلول الممكنة، إلا أن كل محاولاتهم باءت بالفشل. ظل الطفل يتعذّب بالمرض حتى مات. في الجنازة، حطّت فراشات كبيرة بأجنحتها الملوّنة على التابوت.
عندما أدرت رأسي والتفتُّ، لم أجدها. كانت قد اختفت. تلاشت حقيقةً لا مجازاً. رأيت فقط كرّاسة الرسم وقلم الرصاص، وعيناً تتفجّر بالأحمر. ناديت عليها. بحثت عنها في بقية الغرف. لا أثر لها. تنورتها القصيرة تلتصق بالجدار كوحمة، وفردة حذاء واحدة تفتح فمها كوحش. هربت... خرجت والرياح تنهش جسدي، هل ابتلعتها واحدة من تلك العيون الكبيرة التي رسمتها! تذكّرت عبارتها: ـــ يريدني أن أموت. يريد التخلص منّي.
قلت: غامض يجذبني. ركضت في الطرقات غاضبة، الغضب إرثي، ماضيَّ غاضب. كنت على حافة الجنون. شعرت أنني سأموت. «الأشياء ضبابية» لا أدري أهو الشك أم الدموع! استلقيت على رمل الشاطئ أفكر في سخرية الأقدار. رأسي كان مزدحماً بأفكار خمّرها الوهم. صرخات وتأوّهات وضحكات تموج داخلي. فوضى مزدحمة.
نظرت إلى السماء التي بدت طازجة، وفكّرت حتى غفوت. تسللتْ إلى نفسي موسيقى يعزفها أناس من الأدغال. تخيّلتُ أنني ألعب مع أطفال حفاة، يلاحقون نموراً بين أشجار كثيفة، ويطردون قردة هندية من أسواق الحرير.
استيقظت مغمورة برائحة الماء، وسخونة الرمل، والرغوة البيضاء. قرص الشمس قريب من رأسي. شمس الواحات جفّفت جلدي. الحرّ تجلّى مثل إله مهيب، ليذكرني بسطوة المكان، وفوقي سقف سائل من الأحلام. كان البحر هائجاً، الموج يضرب الصخور بشراسة، جلدي يرشح عرقاً ثقيلاً. كأنه وحش سينقض عليَّ ويبتلعني. نهضت، وهربت بعيداً، تخيّلته يلاحقني، يطوق عنقي بمياهه الباردة وزبده. هربت وطاردني. سمعت هديره يرتفع عالياً، ليهبط بقوة ويجلد ظهري. هدير الموت، رائحته، شكله، لحظاته الأولى. كي لا أراه ولا أسمعه، انهمكت في الركض لمسافة لا أعرف مداها.

(*) فصل من رواية بالعنوان، للكاتب الفلسطيني محمد جبعيتي صدرت حديثاً عن «دار الآداب» في بيروت، لتشكّل ثالث رواياته بعد «رجل واحد لأكثر من موت» (2017)، و«غاسل صحون يقرأ شوبنهاور» (2018). تروي «عالم 9» حكاية ثلاث نساء في عالم متخيَّل، مشتبكةً مع إشكاليَّات الجسد الأنثوي والحرب واللجوء، من خلال حكايتَين متوازيتَين متقاطعتَين: حكاية فتاة خلّاقة واجهت قسوة العالم بالألوان، وحكاية والدتها التي هربت بها من «الجنوب» أثناء الحرب الأهليَّة، فاجتازتا الحدود والغابات والبحر برفقة آخرين، بحثاً عن حياة أفضل في «الشمال»، لتعاني، بعد وصولها، العنصريَّة ضدّ اللاجئين.