تتبادلُ إشارة المرور، بعيونها الثلاث، النظرات مع الصبيَّة الصغيرة. صديقتان هُما، تتغيَّر الفصول وتتتابع الشُهور وهما وفيّتان لبعضهما. لا شيء تُخبره إشارة المرور العجوز للفتاة، فكلاهما لا تُتقنان لغة الشارع رغم أنَّهما من أركانه. تعبرُ الصبيَّة الطريق إلى موقف الباص. تختبئ تحت سقفه. باتت تقضي حياتها مُتنقّلة من موقف إلى آخر، تحتمي به من تبدّل أمزجة السماء. تشعرها تلك التبدّلات بصُداع اعتاده رأسها ولم تعتده.
أندريا بوتنر ــ «تسوّل» (2017)

ستعتبرُ نفسها ذات حظّ سعيد لو وجدت الكرسيّ الصّغير الذي يتوسّط الموقف شاغراً. في محاولةٍ منها لتحزر الوقت، تُعاين خيال إشارة المرور التي لا تملك رفاهية الجلوس مثلها. يبدو الخيال مُنكمشاً على نفسه ليحميها من حرارة الطقس. رُبّما كان الوقت مُنتصف النهار. أحياناً كانت تستعمل جسدها لمعرفة الوقت. تقف تحت الشمس بسكونٍ، تتّحد بالأرض تحتها كساق شجرة سلبها الزمن اخضرارها وجميعُ الحطّابين زاهدون بما ترتديه من حطب. تراقب الظل وهو يتطاول بتعب، تدفعه الشمس كطفل يرفض أن يحبو أو أن يسير على قدمين، ويتوق للعودة إلى السباحة في عالم الرحم.
تنهض عن الكرسي الموجود في مُنتصف الموقف فتفقد منزلها اللّحظي. تخطو لتعبر من ممرّ المشاة، وتجرّ حطامها الداخلي خلفها، فتسمع صوت قرقعته من دون أن تراه. لا يتركها، فهو أيضاً لا يملك مكاناً يأوي إليه كما لا تملك مكاناً تأوي إليه دموعها. تخلع حذاءها، تحمله معها، وتدلف نحو المسجد. تتلمّس الجدران التي تتفسّخ غضباً ممّن يُقفلون أبواب بيت الله في وجوه عباده. نظرت نحو ذلك الرجل في محرابه: افتح عينيك أيُها المريد، الله لا يسكن في محرابك فانظر خارج أسوار اعتكافك تجد أسباب القبول، فكلّ ما ستجده في هذه العزلة؛ الرفض.
تغسل ما تحمله على جلدها من تشرّد وهي تواجه المرآة غير قادرة على الإجابة عن سؤالها:
— من أَبْأَسُ فتاة في الوجود؟
تحاول كشطه فيظهر من جديد كأنَّه بات ينبع من داخلها.
تُطرَد من المسجد بعد انتهاء الصلاة، ثمَّ تجلس أمام بابه وتمدّ ساقيها أمامها فتحسّ بصلابة أجفانها تذوب وتكادُ تموتُ من النعاس، ولا يكاد جفناها يتّحدان في قبلة الوسن حتى يتعثَّر أحد المارّة بها، يرمقها بقسوة ويكيل لها شتيمة، فترى صلواته تتركه عند قدميها الصغيرتَين.
تمضي الفتاة واللّيل قد أرخى سدوله وفقدت أمان ضوء النهار. تهيم على وجهها جارّة خلفها الحُطام. تمرّ بعلبة كبريت فتحملها بلهفة، ولكنّها لا تجد فيها عود ثقاب واحد. ستكون ليلة أخرى دهماء!
* دمشق/ سوريا