على الرّغم من استخدام عبارة: «مخاطر القراءة المرعبة» كعنوانٍ لواحدة من أهمّ مقالات الكاتب الفرنسي فولتير، إلّا أنها تصلح بمكانٍ يمنح دلالتها للرّعب الحقيقي الذي خلص إليه أبطال الكاتب السوري ممدوح عزّام في رواية «حبر الغراب». الرّواية الصّادرة عن دارَي «سرد» و«ممدوح عدوان»، تتحدّث عن القراءة كفعلٍ ليس للمقاومة فحسب، ولا لنيل الحريّة التي اعتادت منحها، إنّما لتعبّر عن دأب مخلوقاتٍ بائسة تُصارع للحصول على إحدى أهم أدوات القوة التي يستخدمها الحكّام إزاء محكوميهم.عبر حكايته، يبتكر الكاتب حيلهُ السردية منقّباً عن آثار الكتب وما يمكنها تغييره في أجزاء من حيوات أبطاله ونظرتهم إزاء أنفسهم والعالم. تختلط القراءة بالواقع في مكان لم يعهد وجود الكتب من قبل. يمتزج الشّخصي المخفيّ مع العام المعلن، ممّا يودي ببعض الشخصيّات إلى احتمالات خطرة تراوح بين الخبل والانتحار.

تبدأ الحكاية من قرية السمّاقيات في زمنٍ أضمر القحط حياة سكّانها، إذ يشكّل قيام مجموعة شبّان ببناء مكتبة حدثاً يكاد يوازي أثر الانقلابات السياسية والتناحرات الحزبية في مطلع الستينيات، وحيث تخفت أصوات الجميع حذراً، يبدو إبطال مفعول القراءة ومنع انتشار الكتب هدفاً لسياسيّي المرحلة في نزالهم مع قوة الكلمة المكتوبة وما تنضوي عليه من فكرٍ مآله التحوّل إلى أفعال. «خطوهم بات مرعباً، ووجودهم داهمَ وجودنا، وحضورهم صار يعني أن علينا أن نغيب أو نطأطئ». هكذا تبدأ الحكاية من النهاية، إذ يتناوب السردَ توفيق الخضرا وابنه فيصل في قصّهما لتفاصيل جريمة إحراق المكتبة وقتل القائم عليها؛ فارس أبو لوز. يحيا توفيق حياة القلق والرحيل مع عائلته، يعاني الخوف من قرب النهاية من دون الكشف عن الذين دمّروا مشروع عمره. يُسائل نفسه: «هل يمكن أن أنسى؟» ليتشاغل في دكّانه أملاً بالنسيان والتفكير بما هو مضاد، لكنه يخلص للاعتراف بالقول: «كانت المكتبة في جبّتي أينما ذهبت، وكان موت فارس حدبة ظهري».
يعثر الابن على مذكّرات أبيه على شكل رواية حملت اسم «المكتبة البيضاء»، لتخرج عبرها شخصيّة فارس أبو لوز كابنٍ لقرية معدمة، لكنه يرفض السفر بعيداً متمسّكاً بهيئة حالمٍ حزينٍ مثقلٍ بالكتب. يصف نفسه كقارع لأجراس الحريّة، ويدفع مقتله بتوفيق للبحث مجدداً، سيّما بعد أن يترك لقمان الواشي ورقةً عابرةً تفتح الباب على الجريمة بعد مرور زمن طويل عليها. تنساب أسرار وعناوينٌ، لنقرأ عن كتب ألهمت بعض سكّان القرية، فتوفيق الحكيم لنساءٍ بحثن عن زهرات أعمارهن، ومكسيم غوركي لأمهاتٍ جاهدن في إنقاذ أبنائهن وإخفاء كتبهم الممنوعة. أما المنفلوطي، فقد أتى على حياة أحدهم وقلبها رأساً على عقب، وكذلك تشيخوف وطه حسين. هكذا تفعل القراءة فعلها بمصائر البشر في جو ملؤه التكتّم والوشاية. تتنقل الكتب سرّاً وبين ثقوب الجدران في فضاء ينصت سكّانه للخواء بينما تنشأ بينهم لغة جديدة خلّفها وجود المكتبة. تمتزج مصائرهم بمصيرها، وتشتبك أقدارهم في جو من الفتنة السرديّة أمام عين الرقيب (لطفي الجمل) الذي يتولّى قيادة البلدة، لتبدو السياسة كمؤثّرٍ يئدُ مفاعيل المكتبة، فيصبح إخفاؤها غاية ورمزاً للانتقال من زمن المدنية إلى حكم العسكر.
يبتكر الكاتب حيلهُ السردية منقّباً عن آثار الكتب وما يمكنها تغييره في حيوات أبطاله


تُحيي القراءة ما كان ميتاً، ويشتعل الخامد الذي يحرّك الراكدَ في بشرٍ حلموا بالتغيير، نلتمسُ شغفهم الذي أوقدتهُ كتبٌ ملهمة وأبطالٌ خرجوا من عوالمَ خياليّة دفعوا بهم لتقمّص ما يُبعد شبح الفقر والجوع ويعدهم بالخلاص والرحيل. إلّا أن صوراً التقطها نازي حطاب تلقي الظلال على المجرمين، وكتباً مستعملةً لفوزي النجار تكشفُ خيوط قصة الأسرار والمراسلات التي استخدمت السرقة سبيلاً للحياة عبر الكتب، هكذا يصنع سكان القرية لأنفسهم حياة كاملة عبر المكتبة، إلا أن رقابة لطفي الجمل وأتباعه تتقصّى أحوال الجميع، وتدقّ ناقوس الخطر بضرورة الخلاص من المكتبة، ليدرك توفيق أن سرقة الكتب أنقذتها، وصنعت دليلاً حيّاً على وجودها، فالحشود التي يهجوها قارئ «البؤساء» في الرواية مجرمة، وقد نجح الهلع في دفعها إلى إنكار المكتبة، لكنّ سرقتها خلّدَت ذكراها. إذ صار الواشي والسارق في لحظة ما برهاناً على زمنٍ صاغت فيه المكتبة موقفاً أُرِيدَ لهُ ألا يكون، وصنعت كلمةً كُتب لها أن تختنق، ومنحت الآخرين حياةً كان لها أن توأد، إنها حياةٌ لطالما أرعبت آلة السلطة عبر التاريخ، حياةُ الفتنة التي تبدأ بعد أن نغلق كتاباً انتهينا من قراءته.