1- بين الصورة والهيولىيُهيّأ لي أن الحذر الفقهي من التصوير، أي الرسم، تبلور بعد منتصف القرن الثاني للهجرة، أي بعد دولة الرسول والخلفاء الراشدين، وبعد الخلافة الأموية. تأسّس هذا الحذر فعلياً مع ازدهار علم الكلام وترسّخ قضاياه وتفرّعها واختلاطها، من ثم، بالقضايا الفلسفية. فقد ارتبط بقضية «الحدوث والقدم» التي كانت في رأس قضايا علم الكلام، وقادت إلى «فتنة خلق القرآن»- القرآن مخلوق أم قديم؟- التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، إذ رأت المعتزلة في القول بأن القرآن كلام الله وليس مخلوقاً من مخلوقاته إقراراً بمشاركة القرآن لله في القدم، الأمر الذي أوحى– بالنسبة إليها– بالثنوية، أي بالاتفاق مع المانوية والمذاهب التجسيدية الأخرى، التي تقول بتعدّد الآلهة، أي تعدد القديم. وقد وصلت آثار هذا الخلاف إلى التصوير (الرسم) ذاته. ذلك أن النظرية الفلسفية اليونانية القديمة تقول بوجود بدئي للمادة يدعى «الهيولى»، وأن الخلق الإلهي يتم بتشكيل هذه المادة إلى صور، أو بإضافة الصورة إليها، الأمر الذي يؤدي إلى الكائنات المتنوّعة.
تطريز على القطن لعبارة «بركة كاملة» يعتقد أنها تعود إلى أحد حرفيي أسواق بغداد في القرن العاشر خلال فترة الحكم العبّاسي

وفي عرف المتكلمين، فإن وجود الهيولى، أي المادة التي بلا صورة، يوحي بوجود قديم مقارن لله. كما أن وجود الصورة منفصلة عن الهيولى يعني الإقرار بالانقسام إلى «هيولى» و«صورة»، وهو ما يعني احتمال القبول بأن الخلق ليس أكثر من عملية دمج بين الصورة والهيولى، وبما يعني أن الخلق هو خلق للصورة لا للهيولى. وهذا ما يوصل إلى أن «الهيولى» قديم قدم الله، الذي لا يزيد دوره عن جمع الصورة بالهيولى.
وفي هذا السياق، صار التصوير فعلاً مشابهاً للخلق الإلهي. فالإله «يصوّر» مثله مثل الرسام. أي يلعب بالصور، ويضيفها إلى «الهيولى» القديمة. وهذا يعني أن العداء للتصوير تمّ بشكل عرضي. فهو لم يكن المقصود بذلك، بل تم إدخاله في الحرب رغماً عنه، وصار مخلوقاً مشكوكاً فيه لاعتبارات كلامية فلسفية، لا لاعتبارات تتعلق بالنصوص الدينية.
ورغم أنه لم يكن المقصود، وأنه أدخل إلى معركة لا شأن له فيها، فقد خرج من هذه المعركة مجرحاً دامياً، بحيث صارت الصورة إمكاناً مانوياً- ثنوياً تتيح القول بتعدد القديم.
لكن جرى في ما بعد تحول مهم. فقد انتقلت الصورة من كونها «إمكاناً مانوياً» أي مُشركاً، إلى كونها «تعذيباً». فقد وجدنا أن الجدال في العصور التالية ضد التصوير، صار يقوم على الحجة التالية: إن خلق شيء من دون روح هو اعتداء على هذا الشيء وتعذيب له. فكل مخلوق يجب أن تكون له روحه. والحال أن رسم إنسان بالريشة والألوان يعني إيجاد كائن بلا روح، لأن الله هو الوحيد الذي يعطي الأرواح ويخلقها. وما دام الإنسان غير قادر على وضع الروح في الجسد، فإن عليه أن يمتنع عن الرسم – وخاصة رسم الكائنات الحية – وإلا فإن عمله «تعذيب» للكائنات التي يخلقها وتظل مهانة بلا روح. عليه، فإن خلقه هو خلق غير مكتمل، خلق مسخي خطير. لذا فهو مكروه ومثير للشبهات. وهذا تطوير للفكرة المضادة للثنوية اليونانية، لكن على أساس إنساني. وهكذا جرى فصل «الصورة» عن «الروح»، وخلقت ثنائية جديدة.
الرسم تمكّن من العيش والازدهار في العالم الإسلامي وخاصة الرسم على المخطوطات وعلى الأواني والأثاث


هذا التحول من رفض الصورة استناداً إلى إمكانيّتها المانوية، إلى رفضها انطلاقاً من فكرة التعذيب ذات النفس الإنساني حدث لأن المانوية كانت قد هُزمت، ولم تعد خطراً في العصور المتأخرة. وبهذا، فقد انتقل الجدال ضد الرسم إلى فكرة رفض «التصوير» إلى فكرة رفض «التعذيب»، متخطياً فكرة الشرك والتكفير. أي أنه لم يعد هناك اعتراض مبدئي على التصوير، بل اعتراض على عدم اكتماله. فالتصوير بلا روح انتهاك لمبدأ الكمال في الكون، ولمبدأ الرحمة أيضاً.
من أجل هذا، فقد كان هناك نوع من القبول لرسوم النباتات التي يفترض أنها بلا روح أو وعي. بل إن رسوم الحيوانات كانت مقبولة إلى حد ما، باعتبار أنها لو كانت تملك روحاً، فإنها تفتقد الوعي، بحيث بدا كأن الروح هي الوعي.
مع ذلك، فليس من الصحيح تكبير آثار الحذر الفقهي من الرسم، إذ إن الرسم تمكّن من العيش والازدهار في العالم الإسلامي وخاصة الرسم على المخطوطات وعلى الأواني والأثاث.
أما النحت، فقد كان الشك فيه أكبر بكثير، ذلك أن النحت وثني من حيث المبدأ. فالوثنية تعبّر عن نفسها، من حيث الجوهر، بواسطة النحت، أي بالتماثيل والأصنام، بينما الأديان التوحيدية كتابية، أي تعبّر عن ذاتها بالكتابة، إذ الكتابة تجريد والنحت تجسيد. والتعادي بين الوثنية والتوحيد هو في الواقع تعادٍ بين التجريد والتجسيد.
غير أن كبت الفن، تحت أي اسم كان، لا ينجح، إذ إنه يجد مخارج له في كل حين ويظهر إلى الدنيا من خلالها، فالفن كالجريمة ذاتها لا بد له من أن ينكشف، وهو ينكشف دوماً، على حد تعبير أحد نقّاد الفن الإنكليز.

2- الرسم وفتنة خلق القرآن
كان المعتزلة، المدعومون من الخلفاء العباسيين، يقولون: القرآن مخلوق. وكان الفقهاء والمحدثون يقولون: القرآن كلام الله، ثم جاءت لحظة حاولت فيها الدولة أن تنشر مذهب المعتزلة بالقوة، الأمر الذي أدى إلى الفتنة، «فتنة خلق القرآن» الشهيرة.
وما زال السبب الذي دفع الخليفة المأمون إلى أن يجعل من الموضوع- الذي قد يبدو لنا سخيفاً الآن- جوهر سياسته الداخلية، موضوع جدال بين المؤرّخين. وهناك فرضيات عدة معروفة حول هذا الأمر.
وفي ظنّنا فقد كان المعتزلة، يصرون، انطلاقاً من التنزيه المطلق للذات الإلهية، على أن القرآن مخلوق، أي على أنه حادث طارئ. ذلك أنّ القول بأنه كلام الله قد يوصل، في ظنهم، إلى أن القرآن قديم أزلي، مثله مثل الله ذاته، وهذا ما سيؤدي، عند النهاية القصوى، إلى المانوية الثنوية، حيث للعالم أصلان لا أصل واحد.
وثمة أشياء في المسيحية تدعم هذا الانطباع. فقد جاء في الإنجيل: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله». وهكذا، فقد: كانت الكلمة موجودة منذ البدء. أي أنها والله كانا موجودين معاً منذ اللحظة الأولى. ثم يضيف النص: «كان الكلمة الله». الكلمة هي الله ذاته! بالتالي، فالكلام قد ينتهي إلى أن يكون إلهاً، أي أننا قد نصل إلى قديمين: الله وكلامه.
وكان جهد المعتزلة، انطلاقاً من توحيدهم الصارم الذي لا يساوم، موجّهاً نحو قطع الطريق على هذه الفكرة الثنوية. فهم لا يضمنون أن يؤدي القول بأنّ القرآن كلام الله إلى الثنوية، أي أن يصبح الله والكلمة، كلمته، أصلين متساويين.
بالتالي، يمكن القول بأنّ رأس حربة المعتزلة كان في البدء موجّهاً ضد الثنوية المانوية، وربما ضد المسيحية أيضاً، أو ضد طراز منها، حيث يكون لله ابن هو كلمته. لكنّ الصراع انحرف وتحوّل في ما بعد إلى صراع سياسي ديني شامل بين الدولة والمعتزلة من جهة، وبين الفقهاء والمحدثين من جهة أخرى. يعني: صارت الثنوية، وغيرها، خارج الصراع.
هذا الصراع الذي لم ينته بتحطيم المعتزلة فقط، بل كان عنصراً حاسماً في تكوين وبلورة ما نسميه بالسُّنَّة الآن.
* شاعر فلسطيني