يحار المرء في وصف مزج نصري الصايغ (1944) بين الشعر والسياسة وتناوله القضايا المستعصية في الثقافة والسياسة والدين. يًمعن فيها نقاشاً وتشريحاً. يقلّبها على وجوهها جمعاء، فأستاذ الفلسفة والحضارة في «الإنجيلية الفرنسية» و«جامعة وهران» (الجزائر) يُجهر بالقول «أريد أن أكون مواطناً لبنانياً من دون السؤال عن طائفتي، فأنا لا طائفي». صاحب «لست لبنانياً بعد» و«خذ حصّتك من القتل» يستعرض ويحلل ويعرّي الأمراض العضوية للنظام الطائفي اللبناني لينتقل بنا المفكّر الذي يحمل من الشعراء يقينهم الصعب وسكناهم في التحول واللاوصول، إلى المناطق المحرّمة في التفكير كالجنس في «مقام الجنس وتصوّف الحواس»، وجدلية الممنوع والمسموح والصحّ والخطأ في «دفاعاً عن الخطأ والخطيئة». يخوض في التراث، فيشرح السيرة السياسية للرسول العربي من وجهة نظر مرنة في «محمد: السيرة السياسية». يُرافع عن المقاومة في «حوار الحفاة والعقارب»، ويُقارع عُتاة منظّري الصهيونية في «لو كنت يهودياً». لا شيء أنصع من الروح الوثّابة والمرونة العذبة لقلم ابن بلدة مشغرة حين تجول في مؤلفاته، وهو ما يجعل عنوان مجموعته الشعرية الأخيرة «أريد حذاء لروحي - شعر ما بعد الكارثة» (دار أبعاد للطباعة والنشر والتوزيع ـ 2021) يزيدنا حيرةً: «لم يعد قمر مشغرة ساحراً. أراه حزيناً وغارباً وأحياناً بائساً». حول السياسة والشعر والدين والسياسة وشجون قمر مشغرة، كان لنصري الصايغ معنا حديث شامل في «كلمات»
نصري الصايغ: حاول المسلمون أن يكونوا مثل محمد، أو نسخة عنه لكنّهم فشلوا

عنونت كتابك الأخير «أريد حذاءً لروحي - شعر ما بعد الكارثة». هل الكتاب مرثية لبيروت بعد الانفجار، ولو أنك لم تذكر الحدث مباشرة؟ وهل عرّتنا الكارثة من أرواحنا وأجسادنا؟
ـــ لا أعرف إن كنت سأجيد الإجابة، يصعب عليّ التعبير، فأنا لم أعد أنا بعد الانفجار. صرت عدماً يبحث عن وجود ضئيل. لا أستطيع الوصف، لأن ما حدث يفوق الوصف. أجد صعوبة فائقة في العودة إلى نقطة الصفر. بل أقول إني عندما كتبت هذا الكتاب، لم أكن أنا الكاتب. كانت الأنا الأخرى هي التي تكتب وتعاني. صدّقني، كان اللاوعي هو مركزي، ولا أعرف أين وجدت لغتي هذه وطريقتي هذه. حالياً يصعب عليّ كتابة كلمة. عدم يخلّف عدماً. ولا أظنّ أنني أستطيع قراءة هذه الصفحات. لذلك أترك لك وللقارئ أن يخبراني عن «أريد حذاءً لروحي». هل عذري مقبول؟ أرجو ذلك.

«لبنان في مئة عام - انتصار الطائفية» هو عنوان أحد كتبك السابقة. هل انتصرت الطائفية علينا وكرّست انتصارها بالانفجار الكبير في ٤ آب؟ وهل القتيل في نص الكتاب الأخير «مذكرات قتيل» هو خياراتنا العلمانية والإنسانية؟ من يقتُلنا؟
ـــ لبنان يختلف عن غيره وله خصوصية فريدة. لم يولد لبنان طائفياً. الطائفية سابقة على لبنان. نتذكر مرحلة المتصرّفية. تمثيل طائفي وتوزيع حصص. إذاً، الطائفية صنعت لبنان وهكذا تكون الطائفية صاحبة الحقّ الشرعي في تقرير وجوده ومصيره. اللاطائفيون في لبنان بحاجة إلى معرفة الجوهر التكويني للبنان، فهو وليد رغبة مسيحية أولاً، لكن «الجغرافيا المسيحية» كانت قد عاشت المجاعة، فلا بدّ من أطراف تُضمّ إليه، وهكذا ألحقَت به أقضية ومدن. وهكذا صار لبنان الماروني شريكاً للسني والدرزي والشيعي. الدستور ليس طائفياً إلا بنسبة ضئيلة ومؤقتة. بعد الاستقلال، حُرّف الدستور بميثاق طائفي سمّي بالميثاق الوطني، وحكِم لبنان منذ ذلك الوقت بالميثاق لا بالدستور. والميثاق الوطني تنظيم طائفي ونظام محاصصة وتوجهات إقليمية ودولية معارِضة. وعلى هذا الأساس، لم يكن اللبنانيون لبنانيين بل طائفيين، حتى ولو كانوا ملحدين. في البدايات، برز تيّار سياسي برلماني علماني، أي كان هناك فريق يريد دولة مدنية. اصطدم ذاك بالتيار الطوائفي إبان الصراع السياسي الداخلي والخارجي. حسم لبنان هويته، وصار طائفياً كله، من رأسه حتّى أخمص سياسييه. لم تنكسر الطائفية يوماً. تصارع الطائفيون دائماً، وانتصرت الطائفية دائماً. كل الصراعات والنزاعات انتهت باتفاقات ومواثيق طائفية. الانفجار الكبير في المرفأ لم يوحّد اللبنانيين. فرزهم أكثر. ١٧ تشرين لم يوحّد الشارع. فرزهم بشدة. لبنان إما أن يكون طائفياً أو لا يكون، ونحن على وشك «أن لا يكون».

أهذا ما شرّحته في «لست لبنانياً بعد»، ماذا يعوزنا لنكون لبنانيين؟ وهل يستحق هذا البلد أن نقاتل لأجله؟
ــ أولاً وأخيراً لا يمكن للمقيم في لبنان أن يصير مواطناً لبنانياً، لأن ذلك ممنوع منعاً تامّاً. الدولة ليست في النصوص وإنّما في الممارسات المبرمة. حدث أن عدت من باريس بعد اتفاق الطائف. كنت نصف متفائل. تحرّيت عن الاتفاق من مناهله. زرت الإمام محمد مهدي شمس الدين وقلت له: «جئت أشكوك إليك». قال: «هات يا ابني». قلت: «أريد أن أكون مواطناً لبنانياً من دون السؤال عن طائفتي، فأنا لا طائفي»، فأجابني: «لا تستطيع أن تكون لبنانياً إلا إذا دخلت من المعبر الطائفي». قلت: «لن أخون معتقدي»، فقال: «إذن لا تستطيع أن تكون لبنانياً». الشرط الأول لتكون لبنانياً أن تكون محسوباً على طائفتك ولو كنت ملحداً أو كافراً. الدستور اللبناني غير طائفي باستثناء المادة ٩٥ التي نصّت على طائفية محدودة صارت مؤبدة. القرار ٦٠ل.ر ينص على خانة لمن ليسوا أتباع طوائف. أهملوه. رسملوا أنفسهم بصلابة الأحوال الشخصية وفق الأوامر الدينية. أُغلق الملف. صدف أن غامر المحامي سامي الشقيفي في السبعينات، فتقدم بشكوى يطلب فيها شطب الإشارة إلى الطائفة في التذكرة وسجلّ النفوس. صدَر حكم رائع من قبَل قضاة رائعين. سمحوا له بذلك، واستأنفت النيابة العامة. وبعد خمسين عاماً مات سامي الشقيفي ولم تُعقد الجلسة. المثل الأخير مبرم: هناك مجموعات نسائية أجنبية وعلمانيون جامعيون قرّروا أن يكون موتهم لا طائفياً. حصلوا على قطعة أرض لتكون مقبرة لهم. وبعد وضع خرائط للبناء، شربنا كأس موتنا العلماني. في صالة من صالات سوق الغرب. بعد أسابيع، اجتاحت الجرّافات المقبرة. إذن ممنوع أن تكون ميتاً خارج طائفتك. أنت لطائفتك. أنت ملكها ولو كنت ضدّها. فكيف تقاتل من أجل بلد أصيل في طائفيته؟ هذا لهم فليأخذوه، وهكذا فعلوا. أنت طائفي غصباً عنك.
أردت أن أضع الجنس في مرتبة الدين، لأن العيب ليس فيه، بل في اضطهاده وتكفيره واتّهامه وتغييبه


تهتف فيروز من صميم قلبها في إحدى أغانيها: «يا قمر مشغرة». مشغرة قريتك في البقاع حيث تعيش عزلتك منذ عامين تقريباً. هل وُجد لبنان الجميل برأيك خارج أغاني الرحابنة؟ وهل ما زال من «ريف» لبناني اليوم يستوجب نوستالجيا إلى زمن مفقود؟
ــــ أجمل وأثمن ما خلقته البشرية وما ظلّ حيّاً هو الفن في كل ابداعاته، ولبنان المصاب في وجوده ومصيره لم يطفئ شموعاً أضاءت الروح في لبنان والجوار. قمر مشغرة صار تراثاً، وكذلك ما تركته أنامل وحناجر وإبداعات الفنانين. وحدهم السياسيون إلى زوال. إنما، في الانحطاط السياسي والوجودي، لم تعد الألحان تصيب أوتارنا الروحية، هناك حزن لا يوصف، نشيج دائم، ألم كثيف، كآبة منتشرة، ضياع ومجهول. نبحث عن لقمة أو ضوء أو غد. وسط المآسي، تفقد هذه الفنون فعاليتها. لم يعد قمر مشغرة ساحراً. أراه حزيناً وغارباً وأحياناً بائساً. مشغرة، بلدة زكي ناصيف، هو حاضر في متحفه وتراثه، ولكننا لسنا حاضرين هنا. لا أريد أن أترك الحزن يأخذ مكان الفن. لذلك أعتبر أن ما تبقّى من الريف هو قليل جداً. الريف ينسحب. الماضي الجميل لم يعد موجوداً. مشغرة وسواها في حداد، وفي الأحزان تكثر الغصّات والدموع وتغيب إيقاعات الفنّ والروح. الأحزان اليوم في كل مكان.

خضت في كتبك مضامير صعبة، ككتابك الشعري «مقام الجنس وتصوف الحواس». لماذا اخترت الحديث عن الجنس شعراً؟ وكيف تبرر القطيعة بين ماضٍ تراثي يحتفي بالجنس والجسد في كتبه وأشعاره وحياته اليومية، وحاضر يكون فيه الجنس مدعاة للقمع والمنع والعيب والرقابة؟
ــ الدين، عموماً ضد الجنس. أردت في محاولتي هذه أن أضع الجنس في مرتبة الدين، لأن العيب ليس فيه، بل في اضطهاده وتكفيره واتّهامه وتغييبه، علماً أن الجنس يندسّ في كل المرجعيات التي تتّهمه وتقمعه. كبرتُ في ظلال الشكّ، إلى أن تبيّن لي بالبديهة أولاً، وبالشهادة ثانياً، أنّ حواء ليست مذنبة أبداً، لم ترتكب إثماً ولا خطيئة. لقد ارتكبت لذّة هي الأرقى، ولم ترتكب سِفاحاً. حوّاء كأسطورة، هي أم الحياة. هي التي ولدَت الحياة. آدم مسكين، رجل مقيم في الجنّة يأكل ويشرب وينام ويضجر. علّمه الله الأسماء، فظلّ على حاله. أنشأ من ضلع له امرأة، وأمرهما ألّا يأكلا من شجرة المعرفة. أي يجب أن يبقى آدم غبيّاً وكذلك حواء. لم تقبل حواء هذه الوصاية وقالت لآدم الغشيم: «نأكل من شجرة، فهي منية العقل». حواء ليست أمّنا الأسطورية بل أم المعرفة. وأم اكتشاف أعظم اللذات وهي لذة الجنس. جنسها مرغوب جداً، لكنّها هي الآثمة، فيما يُفترض أن تكون إحدى آلهة الجمال والسحر واللذة. الأديان أساءت إلى المرأة ولا تزال. حاولت أن أضع الجنس في مرتبة القداسة، وهو عندي كذلك. طبعاً ليست كل ممارسة نقية. الجنس المبني على طبيعة الحب والعشق والطبيعة والرهافة يليق به أن يتصدّر الشعر والتعبير عنه بوضوح وليس باللمح. لقد أُسيء إلى الجنس كثيراً. الكنيسة تحرّم الجماع بين الزوج وزوجته إلا للإنجاب وتمنع زواج رجال الدين. عندما كنت في مسيرة أن أصبح رجل دين، كان الجنس يرعبني. أرغب به ويرعبني. تحررتُ في ما بعد. حررني الجنس من كل ماضيه القمعي. حتى إني بلغت في التعبير مرحلة عبادة الجنس وتصوّف الحواس. فلا شيء يرقى على الجنس المتكئ على فراش الحب. كل الذين يحاربون ويذمّون الجنس كذّابون. وكل الذين ينظرون إلى المرأة بدونية حقيرون. أنا لست مع المساواة بين المرأة والرجُل، بل أنا مع أوّلية المرأة على الرجُل. بين آدم وحوّاء، أنا مع حوّاء.

هل يمكن اعتبار كتابك الجديد «دفاعاً عن الخطأ والخطيئة» (الفارابي ـــ 2021) امتداداً لهذه الرؤية؟ ما هذا الكتاب، وما غرابة هذا العنوان؟
ـــ هو كتاب موسوعي أولاً. أجّلت نشر ثلثه لأنه يفوق ٧٥٠ صفحة وهو الآن يفوق ٥٠٠ صفحة. منذ صغري، وفي مسيرتي لأكون رجل دين، أثارني الممنوع والمسموح. لماذا؟ كيف؟ من قرّر ذلك؟ ومن أسبغ على هذا الشيء أو الأمر أنه حقيقي وليس خطأً. ظلّت الكنيسة وما زالت تضطهد المرأة. وصمتها بالعار والخطيئة، علماً أن المسيح قال للزانية التي كانت على وشك أن تُرجم: «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجَر…اذهبي ولا تعودي تخطئين». والكنيسة لم تخرج بعد من عقدة محاربة الجنس. أما إذا دخلنا هياكل الفلسفة والفكر، فإنا لا نقرأ إلا عن «حقائق» ظهر خطؤها. الخطأ أساس وليس الحقيقة. أين هي جمهورية أفلاطون؟ أين هي تعاليم سقراط؟ أين عمارة النهضة؟ أين الفلاسفة المسلمون؟ كلّهم اكتشفوا «حقائق» أنها خطأ فيما بعد. ففي البدء كان الخطأ. في مسرحية برتولت بريخت، «غاليليو غاليلي»، مشهد يكثّف زيف الحقائق ونصاعة الخطأ. مشهد يضطر فيه غاليلي لنكران الحقيقة التي اكتشفها بأن الأرض تدور حول الشمس. طُلب منه أن يتراجع وإلّا حُكم بالإعدام. خاف غاليلي وأنكر الحقيقة. حصل أن أحد تلاميذه جنّ جنونه كيف ينكر معلّمه الحقيقة. يزوره في السجن ويصرخ بصوتٍ عالٍ: غاليليو، لماذا أنكرت الحقيقة؟ يجيبه غاليليو: «أندريا يا أندريا، هل تعلم أن أقليدس كان على خطأ؟ إن أقرب خط بين نقطتين هو الخطّ المتعرّج». لا وجود لخطّ غير متعرّج إلا في الوهم. الخطأ أكثر رسوخاً في التاريخ من الصحّ والحقائق. أليست الشرعة الدولية لحقوق الإنسان صحيحة ناصعة؟ كلّا، إنها ليست كذلك. كيف لمن أصدر هذه الوثيقة الكاذبة أن يتنكّر لها في الواقع. الدول العربية إلى جانب ومع إسرائيل مهما ارتكَبَت. أين الشرعية الدولية؟ الخطأ هو الأساس بكل أسف، والصحّ هو الكذبة.

ألّفت كتاباً حول السيرة السياسية للرسول العربي، هل يشبه الإسلام السياسي تجربة النبي العربي في رؤيته وممارساته؟
ــ لا أحد يشبه محمد. السيرة السياسية للرسول العربي لا شبيه لها، ويستحيل ذلك، والتاريخ شاهد. حاول المسلمون أن يكونوا مثله، أو نسخة عنه ففشلوا. التمزّق الإسلامي الذي حصل بُعيد موت محمّد، ثم الصراع على الخلافة، بدموية مؤلمة ومذهلة والإسلام الذي تشقّق وتناثر فِرقاً ومذاهب ونزاعات وحروباً يدلّ على ذلك. الإسلام انتهى واكتمل في النص القرآني. ما بعد النص هو فعل إنساني. كذلك المسيحية، اكتملت بنصّها وتعدّدت بعد ذلك… إذاً السيرة النبوية حيّة، فريدة لا شبيه لها ويستحيل استنساخها. السؤال المنطلق: هل يمكن بلوغ إسلام سياسي، ينقل حرفياً النصّ الديني والسيرة النبوية؟ التاريخ الإسلامي واضح. لا طريقَ واحداً. هناك عدة طرق، ومن هنا كان تعدّد الفرَق. الغريب عند أصحاب النزعة الأفقية تعاميهم عن الأساليب المثيرة والوسائل المتعدّدة التي كان محمد ينتهجها، وتكون من عنديّاته وليست وحياً يوحى. عبقريته تتجلّى في إنجازاته وانتصاراته وتبدّل الطرق التي كان يسلكها. لقد أقام مع الأعراب، هنا تحالف، وهناك عدم عداء، وهنالك حياد، وهناك جبهة، إلخ. هناك صكوك واتفاقات تتطابق والمصلحة، لا يمكن تقليد الرسول لأنّ جوابه أحياناً كان متعدّداً لا واحداً.

في «حوار الحفاة والعقارب»، أكملت العنوان بـ «دفاعاً عن المقاومة». أليست مقاومة الشعوب المحتلين حقّاً لا تشوبه شائبة؟ ولماذا تحتاج المقاومة في مجتمعات كمجتمعاتنا إلى مرافعة؟ هل تستقيم برأيك مقاومة قوية ودولة قوية في بلد؟
ــ لم تخلُ حقبة في التاريخ من مقاومة. المقاومة لها حضورها الثمين في الانتصارات والانكسارات. لبنان وما حوله من كيانات شهد مقاومات عديدة. لكن أكثرها تأثيراً تلك التي نشأت لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ومن قبل الثورة العربية الكبرى، بقيادة سلطان باشا الأطرش في بلده الشام في مواجهة الاحتلال الاستعماري الفرنسي. وللبنان حصّة وازنة من «المقاومات». جغرافية لبنان لا يمكن أن تنجو من التحولات في محيطه ولا يمكن أن تكون مقاومة فيه إلا وفي مقابلها مقاومة مضادّة. الحرب الأهلية، بين اللبنانيين، لم يكن الجيش اللبناني فيها مشاركاً رسمياً، لكنه انشق وانتسب إلى جبهة هنا وجبهة هناك. «المقاومة المسيحية» استنجدت حتّى باسرائيل لطرد المقاومة الفلسطينية، وهكذا خلت الساحة لمقاومة لبنانية متعدّدة الأطراف. ما كان ممكناً الركون إلى الاحتلال الإسرائيلي. الجيش اللبناني عاجز عن طرد المحتل، وليس موحَّداً. المقاومة الوطنية، مدعومة من سوريا، قامت بمهمة طرد المحتلّ من الجبل والإقليم وصيدا فيما كانت المقاومة الإسلامية تضرب في العمق والأطراف. الجيش ظلّ شرطة عاجزة. من يحرّر الأرض إذاً؟ المشكلة إذاً لا تطرح نظريات أبداً. إنها مسألة واقعية لا تجوز عليها النصوص. النص يحصر العنف بالجيش، ولكن لبنان موزّع الولاءات ولا يجمع عنفاً وطنياً يُعبر عنه بموقف أو معركة أو هدف. لذا نشأَت هذه الثنائية: الجيش والمقاومة. الجيش سيبقى كشرطة، والمقاومة هي ناظرة المواجهة وتستعد للمزيد لأن معركة التحرير تستكمل بردع العدوان، الذي لا يستطيعه الجيش. إذن المسألة ليست دستورية أو نصّية. المسألة كلها في حاجة لبنان إلى عنف ردعي. ولكنّ اللبنانيين ليسوا موحّدين في تحديد من هو العدو. لكل طائفة عدوها وحليفها، والبعض، كي ينجو من المقايسة، يطرح فكرة الحياد. علماً أن الشعوب اللبنانية ليست محايدة فلكل شعب محوره. هل لبنان بحاجة إلى استمرار المقاومة، الجواب: حتماً، مع بقاء الاختلاف العميق حولها.

ظلّت الكنيسة وما زالت تضطهد المرأة. وصمتها بالعار والخطيئة، علماً أن المسيح صفح عن «الزانية»


حاورت أعلام المثقفين اليهود في «لو كنت يهودياً»، من منطقة فكرية وثقافية عالية. هل تعتقد بإمكانية اختراق الوعي «اليهودي» أو بدرجة أعلى «الصهيوني»، أم أن ثكنة الغرب المسماة «إسرائيل» لا حوار معها إلا بما تجيده هي، الرصاص والسلاح؟
ـــ محاولتي في «لو كنت يهودياً» كانت مغامرة شاقة وخطيرة. حدث أن كنت في مقهى والتقيت ابني نصري. سألني: «معظم الطلّاب في المسرح حيث أدرس يهود. إنهم تقدميون، نقديون، إنسانيون، حداثيون، ولكنهم إزاء فلسطين من عتاة الصهاينة. أيُمكن أن يكون الفرد إنسانياً من جهة، ويختار العدوانية والتعصّب والقتل والطرد من جهة ثانية؟». السؤال ليس نظرياً. إنه حيوي. هو يعيش معهم حياتهم الجامعية. كيف يسلك؟ هل ينبذهم وينبذونه؟ اقترحتُ عليه أن يحاورهم مع ضرورة تبديل الأدوار. أن يكون هو يهودياً ويكونوا هم فلسطينيين. فشلت التجربة. قلت: فلأُقم أنا بذلك. وهكذا صرت يهودياً في الكتاب وغصت في التاريخ، وسأوجز ما وجدت: الفلسطيني هو ضحية، هو من كان ضحية الغرب المسيحي. يعني أن اليهودي كان على مدى عقود ضحية الأنظمة الغربية. كان اليهودي ملعوناً، شيطاناً، سارقاً، مرابياً، انتهازياً، إلى آخر الصفات. ظلّت هذه الوصمة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، ومذابح أوشفيتز. أوروبا لا تريد اليهود عندها. كذلك روسيا. لذلك كانت الصهيونية اختراعاً خلاصيّاً لليهود باتفاق بين النخب المالية الأوروبية والحكومات الغربية. «إسرائيل» كانت مشروعاً غربياً لطرد اليهود من الغرب وإقامة دولة لهم في أرض فلسطين. ما أدهشني، كتاب لجاك أتالي، وهو محترف تأليف وتفكير، ومستشار الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، في كتابه «اليهودي والعالم والمال» ينصّ على أنّ العهد الذهبي الذي عاشه اليهود كان في البلاد العربية فقط، وصدف أن كانوا رواداً في الاقتصاد والمال والكتابة. أمسكوا بالتجارة من قندهار في أفغانستان إلى طنجة في المغرب. لم يكن اليهود مشكلة عربية أو إسلامية. لقد طردوا من إسبانيا كالعرب. لا عداء مسبقاً بين العرب واليهود.

في «خذ حصتك من القتل»، تقول: «ما بين القلم وبين الحدث مسافة ضوئية، واللغة عاجزة عن نقل التراجيديا العربية التي تشكّل حياتنا والتي نقوم نحن بلعب أدوارها». هل نحن أمام ما يشبه مقولة أدورنو «لا شعر بعد أوشفيتز»؟ ولكن ألا يخلد الشعر وما يكتبه القلم وتصير تلك الأحداث من التاريخ؟
ــ التاريخ اختصاصه الأحداث. يجهد كي يكون صادقاً ومحايداً. الحياد فيه أساس ولكنه نادر. الأدب ليس ابناً شرعياً للأحداث. القلم سيد كلمته. الحدث عنده منصة أو تجلّ أو إيحاء. ما خلّفته التراجيديات الكبرى كان أكثر التصاقاً بالديمومة أو اللازمنية، لذلك يُقرأ الماضي بصيغتين: صيغة التاريخ وصيغة التأليف، والتأليف غني جداً، أغنى من الحدث بكثير. نحن اليوم نعيش في قسمة فارغة بين العلم والحدث. تاريخنا مشبع بالأحداث، ولكنه في الأسر الديني والمذهبي والسياسي واليومي. الشعر العربي، مع إبداعاته المذهلة، لم يأخذ الأحداث التاريخية الكبرى على محمل الأدب الملحمي أو المسرحي. ظلّت الأنا الفردية طاغية، لذلك أبدعنا أدباً فردياً وتخلّفنا جماعياً. عصرنا اليوم يحفل بالانحطاط. يستعيد انحطاطه السابق. أحداثه تراجيدية. غنية، ملهمة، لكنها لم ترقَ إلى مصاف الميثا-تاريخ، ميثا-دين، ميثا-سياسة. كل تراثنا يقرأ دينياً وسياسياً ومذهبياً. الأدب حاول. الشعر قرع الباب. التقليد أقوى. لذلك نحن اليوم نمثّل النموذج الأعلى (وليس الأرقى للانحطاط).

لنعد إلى نصري الصايغ المسكون بالحياة والفرح، كتبتَ لحفيدتك كتاباً عام ٢٠٠٥: «مسبحة من حبتين/ غجريان/ وكطائرين/ ينقلان الصبح إلى المساء/ ويُعيدان المساء إلى الصباح»، هل ما زالت للسعادة وفضاء هذين الطائرين مساحة في حياتك؟ أم أنها مساحة صغيرة جداً مع العائلة والأحفاد تحميها عن رعب الوطن؟
ـــ عندما تشعر أنك صرت جَدّاً، يعني أنّك بدأت تلوّح باليمنى إيذاناً بالوداع. على العكس من ذلك حدثَ معي. حين جاءني الاتصال من باريس ليلاً بأنّ إيناس قد ولدت، شعرت أني صرت ولداً أكبرها بعام أو بعامين. صرتُ صغيراً جداً، مع أن عمري يجرّني إلى نهايتي. دخلتُ مكتبي في البيت ورحت أكتب إلى حفيدتي. لا تقولوا إني أكذب. كتبت الديوان كلّه دفعة واحدة. عندما أعيد قراءته بالعربية والفرنسية، أشعر بأن الولادة صحوة للّغة كما هي صحوة للجدّ. أحببتُ نفسي جدّاً يستعدّ للرحيل، يلوح مودّعاً الحياة، أحببتُ نفسي راقصاً كبهلوان، مسترسلاً في الفرح كالمجنون. ساعدتني لغتي هذه، لأني كنت قد ترأست مجلة «سامر» للأطفال، وكانت عربية من أولها إلى آخرها. شارك فيها كبار المؤلفين والفنانين العرب: زمريا تامر، عادل أبو شنب، حسني البورظان، إلخ. في هذه التجربة كنت حريصاً على احتضان لغة جديدة تغني الطفل وليست تسلية فقط. من هذه التجربة خرجت بعدد من القصص جُمعت في كتاب «وطن وعصافير» وقد قدّمت عنه أطروحة في باريس. دعني أذكر لك حادثة لها دلالة كبيرة عندي. «دمعة ليلى» قصة عن ليلى الفلسطينية. أصدرناها في بوستر ووزّعناها. عندما احتل الهمج الإسرائيليون بيروت، مزّقوها. أنا اليوم جدّ جدّاً، ولكنّي نسيت أن أكون طفلاً. إنه لأمر محزن أن نخسر طفولتنا، وإنه لأشدّ حزناً أن وطن الحفيدة لم يعد لبنان. هل هناك بؤس أشد إيلاماً؟ أنا الآن من دون حفيدتي أشبهُ فزاعة البساتين.



الموت الآتي من جهة البحر


بالأحمر والأسود، يطل علينا نصري الصايغ في غلاف مجموعته الشعرية الأخيرة «أريد حذاءً لروحي - شعر ما بعد الكارثة» (دار أبعاد للطباعة والنشر 2021)، أي بألوان حادة وعنوان صادم من الشاعر الذي ضيّعته السياسة كنبيّ ضيّعه قومه «يتعاطى الشاعر السياسة - يقول ما لا يُقال ولا يُسمع/ يقدم على الخسارة النظيفة/ويشيح بصره عن ربح موبوء ومستعمل»، فصار الشعر عنده كالعصافير المهاجرة، ويسكن في مخيّلته ولغته وحواسه. فما الذي حدا بصاحب «مقام الجنس تصوّف الحواس» أن ينتقل من العري الجميل للحبّ إلى العُري الفجّ للروح والذي يحتاج حذاءً كي يغطّيه: «عرفت الفداحة…/ بعد الآن/ سأجعل من الصدى مكان إقامتي/ والجنون الأخرس لغتي/ والحزن وليمتي/ واللاجدوى مكان عبادتي الكاذبة»، وأي شيء أخذ الشاعر ذا اليقين الصعب وهو الذي كان قاب قوسين من يصبح رجل دين نحو الإيمان بهكذا عدمية؟ إنها الكارثة بعد الانفجار، والنص الذي يكتب بالوجع، ويأس من يقارع موت المدينة والأحلام بما يشبه «عدماً يبحث عن وجود ضئيل»، إزاء «السياسة من نقطة الصفر» التي ينتهجها من أمعنوا «دفاعاً عن الخطأ والخطيئة» في هندسة مشهد القتل والدمار: «الخزائن والمكتبات فرغت من ذاكرتها/ أسمال الفقراء كانت الزي الرسمي للموت/ كتب التلامذة تعثّرت بحروفها المنتوفة/ وثياب الباعة وسيدات المحافل الأنيقة/ تساووا بؤساً وتشلّعاً في كل الاتجاهات». يبدو الناس في «أريد حذاءً لروحي» قد فقدوا جباههم، ماشين على غير هدى وبدون أدنى تطلّع إلى الأعلى، مشية من فقد الجسد والروح والأحلام، في كارثة بيروت يوم الرابع من آب ومرفئها والموت القادم من البحر. لماذا يا تُرى ترك نصري الشاعر مساحة بيضاء أشبه بالشفق في منتصف غلاف الكتاب؟ ربما في قلب لعبة الديالكتيك التي يحبها بين الحفاة والعقارب، سنجد ذات يوم وطناً «لا يستحق طلقة ولا صفعة ولا محرقة».