فليبُورْ تْشُولِتشترجمة بثينة الزغلامي
إذا تم النطق بها، تصبح الكلمة خطاباً، صوتاً، بل لغة عندما تُقال تتطور الكلمة، تتحول وتتكيف وتتحور، تنتشر، بكل بساطة تصبح فيروسَ اتصالٍ. فيروساً يحتاج إلى أُذُنِ أحدهم لينمو، لكن حين تكتب، يمكن أن تصير الكلمة كل شيء وأي شيء: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، دون كيخوته، صفة صارت مبسطة، رسالة حب، الوثيقة العظمى (Magna Charta) للحريات أو تقريراً بوليسياً، هناك شيء مؤكد بمجرد وصفها على الورق، تبقى الكلمة علامة بيانية لعاطفتنا وإذا كُتِبَتْ تخرج كلمتنا من عزلتها. تصبح إذن تجربة جماعية تسمى أيضاً القراءة.
أبلغ من العمر خمساً وخمسين عاماً، وبسبب سوء تفاهم جيوسياسي ولدت في يوغسلافيا، لم أمت في الحرب أو في المخيمات، أنا على قيد الحياة، لاجئ، كان لي حظ استبدال نهاية الشيوعية بفجر الرأسمالية، للانتقال من التربية الجماعية إلى الفرد، من «نحن» إلى «أنا»، أتساءل بعد ذلك كيف يمكن أن تكون ردة فعل السلطات اليوغوسلافية تجاه انتشار كوفيد 19؟ بالنسبة إلى الدول التي يقال عنها ديمقراطية، فإن النتائج أيضاً يمكن مناقشتها. لنعترف بذلك، إنه لأمر معقد للغاية في فرنسا وسويسرا. أنا أبسّط الأمور قليلاً، لكن يبدو لي أنه للمرة الأولى يَتَوَجَّبُ على الإنسان الغربي أن يفكّر بشكل جماعي، أن يسلك الطريق المعاكس له على الأقل ليذهب نحو «النحن».
فيليپ بوِيل ـ «جماجم الموت» (منحوتة على المعدن، 2019)

مجتمعنا الحديث المرتبط بالنت هش جداً جداً.
توقف بعنف، بسبب فيروس كورونا، ركلة رجل كبيرة في عالمنا الذي يقطنه مواطنو المعمورة، القرية الكونية الشاملة لمارشال ماكلوهان تعاني من الحمى والعطس، ولم نملك الترياق بعد.
الفوارق بين الكليانية والديمقراطية أساسية في بلد نظامه شمولي. ليست لدينا معلومة حول أي شيء، ولكننا نملك الكثير جداً من الديمقراطية. في ظل الديكتاتوريات، الإجابة عن أي سؤال: لا أعرف شيئاً. هنا في الغرب الجميع يعلم كل شيء، أي جحيم أكثر احتمالاً؟ العيش بدون أو مع الوفرة في المعلومات. في الصمت غير المعلن عنه أم في النشاز؟ الحقيقي أم الباطل؟
عالمنا في طريق مسدود، هل تتوافق الديمقراطية مع الجائحة؟ الحرية الفائقة القداسة للخروج والجوَلان والذهاب إلى الاقتراع للانتخابات أم الحظر الصحي القاسي على الطريقة الصينية؟
هنا لدينا انطباع أنّ نخبنا تكذب علينا. في غضون ذلك فإنّ كوننا الكبير واقتصادنا الكلي مقيّدان. إنّ أسماك القرش الليبرالية الفاتنة المنتصرة واللامحدودة محبوسة في إناء صغير، عندنا في البوسنة نقول: مستنقع صغير والكثير من التماسيح.
خطر حقيقي أن تتحول ذاكرتنا إلى ذاكرة سمك ذهبي زهاء أعشار الثانية. لذلك بالطبع ما زال لدينا الأدب. ولكن، كيف نكتب في أوقات الجائحة مدونة، منشوراً على فايسبوك، تدوينة، يوميات (النجدة !!!) كاتب مقيد في العزل الصحي؟
في شكله وجوهره، يرفض الأدب الحداثة، الكتاب الحقيقيون يطلبون الوقت والصمت. أثناء الكتابة بعجالة على الويب، يستدعي (الكاتب) على الفور الركح والحشود والضجيج والغضب والدموع وما يحبه وما يكرهه - العواطف والمخاوف والأفراح - الكتابة الإيجابية وعدم التساؤل واللايكات أو والدِّيسْلايكات. صنع أدب بالجملة يَرْشَحُ بالمشاعر الجماعية والمخاوف والأفراح. الكتابة المركّزة وعدم الاستجوابات. من يؤمن بكل شيء مجنون وهو يماثل من يكفر بكل شيء.
الأوقات القاسية تفرض علينا مفردات خاصة، عاجلة وخطيرة، الأفكار العظيمة والكلمات العليمة والجمل النهائية. مثل نهاية الإنسانية، لا تعني نهاية العالم أو التوبة حسنة، ولكن البراءة أفضل.
لا شيء أسوأ من الإدراك اللاحق. هل نكتب أم لا في عالم مريض؟ البقاء روائياً أو التحول إلى كاتب عمود، الانضمام إلى المستدام أم السريع الزوال؟
لديّ الكثير من الأسئلة بلا أجوبة، للأديب شيء واحد مؤكد: القصص تدوم أكثر من الرجال. العالم لسوء الحظ كما يقول الأعمى المبصر بورخيس حقيقي، وأنا لسوء الطالع بورخيس. لا يعلمنا الوباء الحالي أي شيء جديد. الإنسان كائن مدهش يحتاج إلى الكلمات واللقاح في ذات الوقت ليشعر بالرضا وبصوت مطمئن يقول إنه: «نعم، كل شيء على ما يرام».
أكثر من أي زمن مضى للكاتب مسؤولية العثور على الكلمة الصحيحة، الكلمة الحقيقية مع العلم أنه لا يوجد ما هو أكثر إثارة للتساؤل من يقيننا، دعونا نتذكر: لعدة قرون كان الإنسان يسير على أرض مسطحة كان يقيناً واضحاً ومؤكداً من ذلك النوع الذي لا يحتاج إلى أن نتحقق من صحته.
مثل الجميع، ندمت غالباً على الكلام أكثر من الصمت، كل شيء ممكن عدا أمرين: إعادة معجون الأسنان إلى الأنبوب وسحب الكلمة التي نُطِقَتْ من قبل.
يجب علينا إذن، في حدود ذكائنا وإمكانياتنا، أن ننتبه إلى الكلمات وإلى الكلام، وأن نتعامل معهما بعناية، كشيء جميل وثمين وخطير مثل النتروكلِسرين، ولكن ليس بالخوف، فقط بالحذر. على شبكة الويب، كما في الحياة الواقعية، أمام الكائنات الحية، بل أكثر أمام الشاشة. الحذر لا يعني الذكاء بالضرورة. فقط كن حذراً ولا تنسَ أن الأدب لا يمكنه أن يكون أفضل من كوكب الأرض، نعم أجمل وأحسن تصميماً وصنعاً لكنه ليس الأفضل، العالم للأسف حقيقي. أخيراً حتى الرحمَن كتب وصيته مرتين.

* حاشية: إنها امرأة قالت لزوجها: «اسمع، رايمون، سندوّن على فايسبوك أننا مصابان بفيروس كورونا، وبهذه الطريقة سيظن الجيران أننا سافرنا إلى البندقية».
** نُشِرَ الأصل الفرنسي في جريدة Le temps السويسرية، عدد 28/03/2020. ولد فليبُورْ تْشُولِتْشْ في البوسنة عام 1964، ويعيش في فرنسا منذ سنة 1992. كتب روايات عدة بلغته الأم قبل أن يتوجه إلى التأليف باللغة الفرنسية. آخر ما نشره «كتاب الارتحالات» (2020)، ولكنه اكتسب شهرته بكتابه «دليل المنفى: النجاح في المنفى، 35 درساً».