مصر، هذا البلد الذي ما أن يُذكر، حتى تخطر في بالك عِبارة أم الدنيا، أو إحدى أغاني أم كلثوم، أو لربّما تجدُ نفسك منهمكاً في قراءة «الحرافيش» لنجيب محفوظ، أو مستمتعاً بأحد أفلام إسماعيل ياسين، أو مُستذكراً أيام الطفولة عندمَا كانتْ عائلتك تجتمعُ لمشاهدة «ليالي الحِلمية»... إنّ لمصر نصيباً من ذاكرة كلّ عربيّ وبطبيعة الحال: «لا يوجدُ مجال للشّك في أنّ مصر قادت الطريق في إنشاء أوّل مجموعة معروفة من الحضارات التي نشأت على جانِبي الجِسر البرّي بين أفريقيا وأوراسيا في الألفية الرابعة قبل الميلاد» كما ذكرَ عالم الآثار والمؤرخ الأميركي جيمس هنري برستد.

يقول الكاتب والصحافي الفرنسي روبير سوليه في كتابه: «وجوه مصر الحديثة» الذي ترجمه أدونيس سالم إلى العربية (نوفل، هاشيت أنطوان): «إنّ مصرَ «الخالدة» والمُطمئنة أصبحتْ مصدراً للمفاجآت»، ولربّما هذه العبارة تحديداً تُحيلنا على الكثير من الأمور، التّي كانتِ السّبب في تغيُّر الأوضاع في مصر. تُرى ماذا حلّ بمصر المُطمئنة؟
وللإجابة عن هذا السؤال، شارك روبير سوليه القارئ رأيه في تاريخ مصر الحديث. كانتِ الانطلاقة من عام 2010، ليضع القارئ في قلبِ التغيير، ويبدأ معه مرحلةَ اكتشاف تغيُّر الذِهنية المصرية، بدءاً بالانقلاب على حُسني مبارك وإسقاطه إلى سقوط نظام الاخوان وتولِّي العسكر مقاليد الحُكم. بعدها، يذهبُ مباشرةً إلى تقديم عشرين شخصيَّة بالترتيب بدايةً من الاستعمار الفرنسي ونابليون بونابرت كأوّل وجهٍ من وجوه مصر الحديثة، إذ يرى أن حملة نابليون على مصر لم تحدث انقلاباً في السياسة فقط، بل أيضاً في الثقافة والتفكير. تطرّق كذلك إلى شخصيات أخرى يرى أنّها من أهمّ الوجوه التي صنعتْ تاريخ مصر الحديث، غير أنه لم يكتفِ بأوجهٍ سيّاسية فحسب، بلْ قدم وجوهاً فنيّة وثقافيّة كنجيب محفوظ الذي يُعتبر لغاية اليوم العربي الوحيد الذي نال «نوبل»، الكاتب الذي لا يحبّ السفر حتّى أنه اعتذرَ عن عدم تسلّم «نوبل» وأرسل ابنتيه بدلاً منه.
ذكرَ سوليه أيضاً «كوكب الشرق» الفنانة التي استطاعت بالفعل أن تكون كوكباً مختلفاً. إلى جانبِ أم كلثوم، جاء على ذكر هدى الشعراوي (1879 ـــ 1947) ليتناول نموذج المرأة المصرية القوية التي تحرّرت مِن قيود المُجتمع، لتثبتَ أنّه بإمكانها فعل الكثير. إذ «لم تكن هُدى الشعراوي مناضلة ظهرتْ من العدم لتتحدّى الطبَقة المِصرية الراقية، بلْ أتتْ من داخل الإستابليشمنت نفسه» على حدِّ تعبير سوليه.
ماتتْ هُدى الشعراوي لكنّها تركتْ وراءها دُرِيّة شفيق أوّل مصرية تأخذُ الدكتوراه من «السوربون» التي تمكّنتْ من انتَزاع حقّ المرأة في الانتخاب.
صورة مكثفة عن الشخصيات بدءاً من نابليون وصولاً إلى السيسي


أما سعد زغلول الذي يرى الكاتب أنه «أيقونة لا تُمس، وصرحاً من صروح الوطن»، فيمكنُ التعبير عنه بعبارة ذُكرت في الكِتاب على لسانه: «لم يعدْ في مصر أقباطٌ ومسلمون، ليس في مصر سوى مصريين»، في حين يتحدث عن جمال عبد الناصر ودور القراءة في تشكيل الجزء الأكبر من شخصيته. كما يرى أنّ «أيّاً من القادةِ المعاصرين لم يصلْ إلى ما وصل إليه جمال عبد الناصر في مخيّلة الشُعوب العربية». لكنّه يتساءل: «كيف ينسى المصريون جمال عبد الناصر، ذلك الرجل الذي قدم لهم الكثير من الكبرياء والأحلام، وكثيراً من الأوهام والخيبات المريرة؟ طوال سبعة عشر عاماً، كان صوته الرنان يسري كالكهرباء في عروقهم، فهو ذلك الخطيب الفريد في سحره، القادر على مخاطبتهم كما لم يخاطبهم أحد من قبل. بدا صوته يخرج من أعماق وادي النيل. أول مرة منذ سحيق، حكم مصر رجل من أصول مصرية، وابن الشعب. وقد تجاوز صوته حدود مصر، لأن الرئيس، الفرعون الجديد، كان كذلك بطل القوميّة العربية».
أمّا حُسني مبارك، فيصفه بأنّه «لم يكن شخصُ مبارك بقدر ما هو النظام الذي جسّده».
سيطّلع القارئ على بقية الشخصيات كمحمد علي، رفاعة الطهطاوي، إسماعيل باشا، أحمد عرابي، محمد عبده، اللورد كرومو، فؤاد الأول، حسن البنا، طه حسين، فاروق، أنور السادات، بطرس بطرس غالي.
في الخلاصة، أعطى روبير سوليه صورةً مكثّفة عن وجوه مصر الحديثة بدايةً من نابليون بونابرت حتّى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، كما وضع القارئ في قلب الأحداث، وجعله شاهداً عليها، منذ بداية تشكّلها حتى الآن، مبرزاً كلّ ما طرأ على مصر من تغيّرات على الأصعدة كافة.
بالرغم من أنّ الكاتبَ جاء بمادةٍ قيمة، وبترجمة جميلة ورصينة تتناسب ومحمولات الكتاب التي تقدّم حتماً إضافة كبيرةً لكلّ قارئ لا يعرفُ مصر عن قرب، خصوصاً في ما يتعلّق بتاريخها، فهو أوجز له في بورتريهات نبذات مختصرة عن شخصيات صنعت تاريخ مصر الحديث، لكنّه أغفلَ شخصيات أخرى لربّما كانت ستجعل الصورة أكثر شموليةً. غير أن الكِتاب جاء من وِجهة نظر روبير سوليه لوجوه مصر الحديثة انطلاقاً من أفكاره وآرائه هو عن مصر التي نعرف اليوم، والتي لا يخفى قمرها ولن تبهت نجومها.