يُظهر أحد علماء الاتجاهات الدينية البارزين في العالم كيف أدى تغير المناخ إلى اضطرابات دينية دراماتيكية. قبل فترة طويلة من العصر الحالي مع تغير المناخ من صنع الإنسان، عانى العالم صدمات متكررة وحادة بسببه، أدت إلى المجاعة والمرض والعنف والاضطراب الاجتماعي والهجرة الجماعية. لكن تلك الصدمات كانت أيضاً أحداثاً دينية. وغالباً ما تم فهم التحولات الدراماتيكية في المناخ من منظور ديني من الأشخاص الذين عانوها حيث تم وصفها بلغة نهاية العالم والألفية ويوم الحساب. في كثير من الأحيان أيضاً، تميزت العصور التي حدثت فيها هذه الصدمات بتغيرات بعيدة المدى في طبيعة الدين والروحانية. وقد اختلفت هذه التغييرات على نطاق واسع من تنامي الحماسة والالتزام الدينيين، إلى إثارة التوقعات الصوفية والمروعة، وموجات الاضطهاد والاضطهاد الديني، أو ظهور حركات وإحياء ديني جديد. في كثير من الحالات، كانت لهذه الاستجابات تأثيرات دائمة، بحيث أعادت تشكيل تقاليد دينية معينة على نحو أساس.

في مؤلفه «المناخ والكارثة والإيمان: كيف يقود التغير في المناخ إلى اضطرابات دينية» (منشورات جامعة أوكسفورد ــ 2021)، يستخلص فِليب جنكنز، أستاذ «إدوين إيرل سباركس للعلوم الإنسانية في التاريخ والدراسات الدينية» في جامعة ولاية بنسلفانيا وزميل أول متميز في معهد دراسات الدين في جامعة بايلور، العلاقة المعقدة بين الدين وتغيّر المناخ. يؤكد أنّ الحركات والأفكار الدينية التي تظهر من الصدمات المناخية غالباً ما تستمر عقوداً عديدة، بل تصبح جزءاً مألوفاً في المشهد الديني، مع أن أصولها في لحظات معينة من الأزمات قد يتم نقلها بشكل متزايد إلى الذاكرة البعيدة. فقد أعادت التغيرات في المناخ رسم الخرائط الدينية للعالم، وخلقت التجمعات العالمية للمؤمنين كما نعرفهم اليوم، من خلال إثارة النزاعات وإثارة الاضطهادات التي عرّفت نفسها بمصطلحات دينية.
ستغير هذه الحجة الجديدة الجريئة الطريقة التي نفكر بها في تاريخ الدين، بغض النظر عن التقاليد، وكيف من المرجح أن يكون لأزمة المناخ المتنامية تأثير ديني مماثل في الجنوب. ومع أننا لا نستطيع التنبؤ بالأحداث المستقبلية بأي قدر من اليقين، فإن خلفيتنا التاريخية توفّر بعض الإرشادات بشأن الأنماط المحتملة. عندما ننظر إلى التطورات المعاصرة في كل من الإسلام والمسيحية والصراعات بين الأديان عبر أفريقيا وآسيا، فمن الصعب أن نتخيّل أنّ التغيرات المناخية الكارثية قد لا تلهم الاستجابات الدينية. وأحد الأمثلة المشهورة لمثل هذا التحول خلال ما يسمى بطاعون قبرص الذي دمر الإمبراطورية الرومانية خلال منتصف القرن الثالث. فقد اكتسبت الحركة المسيحية الصغيرة في ذلك الوقت رصيداً هائلاً بسبب العمل الذي قام به المؤمنون من رعاية المرضى والحفاظ على شبكات الدعم. أما الوثنيون، فقد تصرفوا على نحو واضح أقل شجاعة وأقل إيثاراً. وعندما تلاشى تهديد الطاعون في النهاية، نمت أعداد المسيحيين نمواً هائلاً، ما منح الكنيسة وجوداً قوياً في المجتمع ومنافساً معقولاً للهيمنة الوثنية الثقافية.
وفي القرن السادس من التأريخ الشائع، أدت كوارث المجاعة والطاعون الناجمة عن البراكين إلى تأجيج الأزمات الدينية المستمرة في الإمبراطورية الرومانية، وقد تجلت في التفسيرات اللاهوتية لطبيعة المسيح. أثارت الانقسامات والصراعات الناتجة عنفاً واسع النطاق بين المؤمنين من الأرثوذكس والكاثوليك والحركات المتنافسة من المؤمنين بالطبيعة الأحادية والنسطوريين التي استمرت حتى القرن السابع عندما دمر الإسلام الناشئ الإمبراطورية المسيحية.
كما قدمت هجمة مناخية جديدة في عشرينيات القرن السادس انقلاباً بـ «الضربة القاضية» هو حدث عالمي لا يزال غير مدروس ويفترض أنه انفجار بركاني ملحمي القوة ترك ندبة لا لبس فيها في سجلات حلقات الأشجار في أمكنة بعيدة مثل أميركا الشمالية. أثار هذا الحدث تجدد الأزمات عبر أوراسيا على مدى السنوات الخمس المقبلة، حيث قضت البرودة والظلام المفاجئ على قطعان الماشية، مما عجّل انهيار الإمبراطورية التركية الشرقية التي كانت آنذاك أقوى دولة في شمال شرقي آسيا. كما أدت الهجرة الجنوبية للشعوب التركية الأخرى إلى هجمات ساحقة على الإمبراطورية الفارسية المتعثرة بالفعل، إذ عانت بلاد ما بين النهرين الآن وباءً قتل نصف سكانها. وفي جزيرة العرب المجاورة، كان ذلك الوقت الذي كان النبي محمد يكافح فيه النخب التجارية الثرية ويبشر برسالة حكم إلهي بدت فجأة أكثر أهمية. ومع أن تسلسل الأحداث غير مؤكد، إلا أن الكارثة قوّضت القادة التقليديين ودمرت إمداداتهم الغذائية وشبكات التجارة، وفتحت الطريق أمام النظام الإسلامي الثوري الجديد الذي توسّع خارج جزيرة العرب، وغزا الدول والإمبراطوريات القديمة التي تم إضعافها وقتئذ على نحو قاتل. لقد حطم تعاقب الكوارث المناخية الكنائس والهياكل المؤسسية القائمة منذ فترة طويلة عبر القارات وفتح الباب أمام كيانات جديدة تماماً.
امتدت العواقب الدينية أكثر من ذلك. كما هي الحال في كثير من الأحيان في العصور المتعاقبة، استجابت الأقليات المؤثرة للأزمة بالانسحاب من عالم فاشل، مثل الرهبان أو النساك. في حالة القرن السادس، أسهم عصر المجاعة والظلام بقوة في صعود الحركة الرهبانية النابضة بالحياة والمؤثرة بعمق في إيرلندا وعوالم سلتيك الأخرى. لقد أنهت كوارث القرن السادس الإمبراطورية الرومانية فعلياً كما كانت معروفة منذ خمسمئة عام وبشّرت بواقع جديد أشد قتامةً في بدايات العصور الوسطى.
الأمثلة الأخرى كثيرة، كما يقول المؤلف. أربعينيات القرن السادس عشر كانت وقتاً للعديد من الكوارث في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في أوروبا، عندما كانت الآفات الطبيعية مثل الجوع والأوبئة وأزمات الكفاف مصحوبة بحرب شديدة وفرض ضرائب باهظة واضطراب اقتصادي، وتضاعف الضغوط التي تثير المقاومة والثورة. كانت العواقب الدينية في أوروبا متنوعة وواسعة، بما في ذلك القتال الوحشي والاضطهاد الذي حرّض البروتستانت على الكاثوليك، والكاثوليك على الأرثوذكس والمسيحيين الآخرين من الأطياف جميعاً، وكذلك على اليهود [الأشكناز – ز م]. كانت السنوات نفسها حاسمة في تشكيل وتعريف العديد من الجماعات الدينية التي أصبحت في ما بعد قوى عالمية في حد ذاتها، بما في ذلك المعمدانيون والمشيخيون والكويكرز وغيرهم. على المدى الطويل، أثارت وحشية الصراع الديني والاضطهاد في تلك السنوات رد فعل أرسى أسس عصر التنوير، وفي النهاية ظهور السياسة والفلسفات العلمانية. لقد خلق تغير المناخ العالم الديني الذي نعرفه في التاريخ الحديث.
في عام 1362، اجتاح إعصار هائل شمال أوروبا وغربيها كان يُذكر باسم «الغَرَق العظيم». وصلت أعداد الوفيات إلى عشرات الآلاف بل حتى إلى مئات الآلاف وفق إحصاءات مختلفة، وتهدمت آلاف المباني، وغرقت أساطيل السفن، وتحطمت بعض الموانئ التي كانت في يوم من الأيام كبيرة إلى درجة أنها لم تتعاف أبداً.
كوارث المجاعة والطاعون أجّجت الأزمات الدينية في الإمبراطورية الرومانية


تبعت ذلك كوارث ملحمية أخرى خصوصاً خلال فترات التغير المناخي الأكثر حدة. ففي عام 1562، تعرضت أوروبا الوسطى لعواصف رعدية شديدة لدرجة دفعت المعاصرين إلى البحث عن أسباب خارقة للطبيعة، من المحتمل أن تكون موجهة من السحرة.
وفي تسعينيات القرن الخامس عشر، تسبّب تغير المناخ في أزمة شاملة في الإمبراطورية العثمانية، تجلت في الاضطرابات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعرف باسم «مناخ التمرد».
وقد شهدت السنوات 1437-1438 أسوأ المجاعات الأوروبية في القرن بأكمله وتجلت المظاهر التي في شكل طوائف «خلاصية»، مع القديسين والأضرحة المناسبة، بينما وجد كبش فداء للأقليات الشريرة أو التآمرية تركيزاً جديداً حاداً في الروما [الغجر].
كانت العصور الأخرى أكثر عداءً للمساعي البشرية، أو حتى للبقاء على قيد الحياة. إن عدد المرشحين المحتملين لمثل هذه الأوقات العصيبة كبير، وتبرز عصور عدة على أنها شديدة الأهمية، وأكثر دراماتيكية من نوعها لقرون قبل أو بعد ذلك. تشمل هذه السنوات التي تدور حول 1320 و1570 و1680 و1740، علماً بأن هذه العهود الأربعة المتتالية تشكل الموضوع الرئيس للمؤلف. من خلال تتبع الآثار المختلفة جداً للاضطرابات أو الكوارث التي يسبّبها المناخ في كل عصر، نرى كيف أثّر التطور المتزايد للدول والمجتمعات والتكنولوجيا في درجة الضرر ومدى التحول. يقدم كل من العصور الأربعة أنموذجاً مميزاً لتأثير الكارثة في الفكر الديني والحياة.
كانت نتيجة الكارثة الناجمة عن المناخ عالماً دينياً نجده مألوفاً اليوم: تقليص أعداد المسيحيين إلى وضع أقلية صغيرة في العالم الإسلامي، بينما انتقل العديد من يهود أوروبا إلى الأجزاء الشرقية من القارة، حيث ظلوا حتى المذابح الجديدة، واستمر ذعر السحرة في القارة لأربعة قرون أخرى.
كما أثرت الأزمة في المجتمعات الآسيوية، وأدى صعود نظام قومي قوي ومعاد للأجانب في الصين إلى القضاء على ما كان حتى ذلك الحين كنيسة مسيحية مزدهرة ومتوسعة. من الناحية العددية، أصبحت المسيحية بشكل حاسم ديانة أوروبية، بطريقة لم تكن كذلك من قبل. بالنسبة إلى المسيحيين كما بالنسبة لليهود، دمرت أزمة المناخ عالماً دينياً وخلقت آخر.
للعلم، تمت شيطنة الجماعات الأخرى إلى جانب اليهود [الأشكناز]، بما في ذلك بعض الذين تم اعتبارهم أخيراً مسيحيين ذوي قداسة مثالية. ففي عام 1307، ألقى الملك الفرنسي القبض على أعضاء فرسان الهيكل بتهم ملفقة تتعلق بعبادة الشيطان والبدعة والتآمر، ما أدى إلى القضاء على ما كان يعتبر أعظم تنظيم صليبي. من بين الخطايا الأخرى، اتهم الفرسان بإنكار المسيح والبصق على الصليب. حظيت هذه الادعاءات المروعة بدعاية واسعة عندما تم الإبلاغ عنها مطولاً في مجمع فيينا العظيم الذي عقدته الكنيسة في 1311-1312.
في حوالي عام 1320، سيطر عصر المجاعة الكبرى والبارانويا والخوف على المجتمعات المسيحية والمسلمة. تصاعد الموت والعنف ونهاية العالم مع الموت الأسود في أربعينيات القرن الرابع عشر. يلاحظ جنكنز أن «قطاعات كبيرة من السكان تخيّلت سلسلة من الأخطار الخبيثة وعرضتها على أقليات مختلفة، حقيقية وخيالية». فقد ركز المسيحيون كراهيتهم وغضبهم على التهديدات المفترضة للنظام الجديد، بما في ذلك الأشكناز، والزنادقة، والجذام، والإرهاب المخيف الجديد، أي: الساحرات!
ختاماً، نذكر بأنه كان هناك تدفق للعمل في مجال المناخ والتاريخ في العقود الأخيرة، يمتد من الفترة القديمة إلى الوقت الحاضر. مع ذلك، يلاحظ الكاتب حقيقة أن «هناك منطقة واحدة على وجه الخصوص تبرز على أنها فجوة كبيرة جداً، وهي الدين، معرّف على نطاق واسع». يساعد الكتاب في معالجة ذلك من خلال استكشاف لغة نهاية العالم، والحساب، والاضطهاد، والصراع الديني العنيف. إنه يشير إلى عصور محورية، بما في ذلك السنون الأربع آنفة الذكر التي تم تحديدها من خلال الكوارث المناخية والطقس المضطرب والاضطرابات الدينية.
في عام 1740، لاحظ فولتير: «هناك ثلاثة أشياء تمارس تأثيراً دائماً في عقول الرجال هي المناخ والحكومة والدين... هذه هي الطريقة الوحيدة لشرح لغز هذا العالم».
Climate‚ Catastrophe‚ and Faith: How Changes in Climate Drive Religious Upheaval (2021)