يمزج شاكر الأنباري (1957) سيرته الشخصية بسيرة بلاده المنكوبة تاريخياً، من خلال علاقته بالكتب والمكتبات، مستعرضاً أحوال المثقّف العراقي في ترحاله القسري من منفى إلى آخر، في ظل ديكتاتوريات وضعت البلاد في مهبّ الخراب. في كتابه «مثل برقٍ خفا» (دار تأويل)، يستعيد صاحب رواية «نجمة البتّاوين» علاقته المبكرة بالكتب والتيه في غابة الكلمات، في نسخة موازية لحياته المضطربة بين المدن التي عبرها مرغماً، في قوس مفتوح من مسقط رأسه في مدينة الرمادي وصولاً إلى كوبنهاغن التي استقرّ فيها أخيراً، مغلقاً القوس على شريط طويل يموج في الرأس عن مئات الكتب التي شكّلت وعيه وذائقته، قبل أن تقوده إلى ولع الكتابة.

لا مكتبة مستقرّة بالنسبة إلى المنفي، فما إن يؤسّس مكتبة في مكانٍ ما، حتى يهجرها نحو منفى آخر، في رحلة سيزيفية شاقة، بالتوازي مع احتضار المكتبات العمومية التي خبت وانطفأت تحت وطأة برابرة تكفيريّين لطالما استهدفوا الكتب أولاً، بقصد تعميم الجهل وتغييب العقل والمنطق. يشير صاحب «بلاد سعيدة» إلى أنّ فتنة القراءات الأولى ستبقى مجرد ذكرى، بالمقارنة مع القراءات اللّاحقة للكتب نفسها، فاستعادة دستويفسكي قادته إلى الضجر على عكس التلقّي الأول لرواياته، وهو ما يخصّ كتب آخرين. على الأرجح، فإن بهجة القراءة، لم تتكرّر بالسطوة نفسها والطعم اللّاذع الذي رافق حقبة السبعينيات في العراق، تلك الحقبة المتوهجة التي توّجها قصصيّاً محمد خضيّر في «المملكة السوداء»، و«في درجة 45 مئوي».
في مقدمة الكتاب الثاني، يورد استشهاداً بأهمية قصص ري برادبري. لاحقاً، سيقع شاكر الأنباري على الأعمال الكاملة لهذا الكاتب الأميركي المتفرّد في واجهة مكتبة في كوبنهاغن، وسيقتنيه على الفور، ثم سيحضر النسخة معه إلى دمشق في هجرته المعاكسة. بعد سقوط النظام الديكتاتوري في العراق (2003)، سيفكّر صاحب «أقسى الشهور» العودة إلى البلاد، وسوف تنقذه أعمال ري برادبري بمكافأة ماليّة تساعده في أعباء السفر، بالانهماك في ترجمة بعض القصص عن النسخة الإنكليزية، وسوف تصدر بعنوان «المريخ جنّة».
يستعيد علاقته المبكرة بالكتب والتيه في غابة الكلمات


في بغداد ما بعد الديكتاتورية، لن يجد الجنّة الموعودة، إنما مجرّد بلاد ممزّقة وفوضى عمومية، وأحزاب مذهبية، كما لم تعد قرية الحامضية في الرمادي بالبراءة نفسها، ولا حتى فندق محمود الذي كان يقيم فيه أيام خدمته الإلزامية في الجيش هو نفسه، لكنه سيعيد إليه وهج القراءات الأولى في الغرفة التي كان يقطنها، ما يسميه «العيش مع ماركيز»، ولحظة اكتشافه رواية «مائة عام من العزلة»، الرواية التي كانت أشبه بضربة على الرأس، ليس بالنسبة له فقط، وإنما لجيلٍ كامل من الروائيّين. وإذا بقرية «ماكوندو» تتناسل بنسخ محلية ركيكة. كما سيستعيد حمّى اكتشاف محمد الماغوط في ديوانه «حزن في ضوء القمر»، وكيف التقاه في دمشق لاحقاً، وقد تغيّرت الصورة الأولى عمّا كانت عليه صورة الشاعر المتسكّع على الأرصفة، فها هو الرجل الذي رفع راية التمرّد، يتكئ على عكاز. كما ستخبو عبارة رامبو التي تبناها ذلك الجيل «من الحمق أن تبلى سراويلنا على مقاعد الدرس» أمام ضربات معاول التاريخ المضاد بكل عفنه وآثامه وخيباته. كان لا بد من أن ينال شارع المتنبي في بغداد حصته من شريط الذاكرة كواحد من أشهر شوارع الكتب في العالم العربي. كتب مستعملة، وأخرى ممنوعة، ومكتبات شخصية اضطر أصحابها لبيع محتوياتها سنوات الحصار. ههنا سيجد صاحب «أنا ونامق سبنسر» نسخة من رواية كنوت هامسون «الجوع»، كما سيحظى بكتابين آخرين يفسران صورة أميركا بوضوح: الأول بعنوان «أمريكا» بتوقيع تزفيتان تودوروف، والثاني «ذاكرة النار» لإدواردو غاليانو.
وفي الشارع نفسه، سيفاجأ مثقفو العراق بوجود الروائي البيروفي ماريو فارغاس يوسا الذي في رحلة استكشافية لعراق ما بعد الحرب، وقد أنجز كتاباً مهماً عن مشاهداته. هنا يتساءل الروائي العراقي عن عدم اهتمام الكتّاب العرب بتدوين كتب مشابهة ترصد تحولات المشهد العراقي، كما سيستدعي رواية يوسا «حفلة التيس» التي قرأها أثناء وجوده في دمشق، ليجد فيها صورة موازية للديكتاتور العراقي، أو أي ديكتاتور آخر، نظراً إلى تشابه الطبائع بصرف النظر عن الجغرافيا، كأن رصيف شارع المتنبي هو «المنطقة الخضراء» للمخيّلة، وليس تلك المنطقة التي يتحصّن داخل أسوارها الديكتاتوريون الجدد، مثلما سيكتشف بعدسة مفتوحة أسباب العنف، والقسوة، والثأر، في الشخصية العراقية. من ضفةٍ أخرى، ستبزغ روايات أخرى تركت أثرها في وجدان هذا الروائي الجوّال، فرغم مآسي النفي التي عاشها، إلا أنها في المقابل أفادته في اكتساب تجارب ولغات وطبائع انعكست على نصوصه ورحلته في الكتابة وتمثّله لسرديات الآخرين، وإذا بجغرافيات المنفى تتهاوى لمصلحة وعي مختلف ومنفتح على أطياف بلا حدود. لكن ثقافة التنوّع بثرائها الحياتي هي نفسها من ستلفت الانتباه إلى كنوز التراث العربي التي أهملها معظم الكتّاب العرب. في كوبنهاغن، سيجد في المكتبة المركزية بعضاً من كتب الجاحظ والتوحيدي التي ستعيده إلى ثراء البلاغة العربية، بعدما كان مهووساً في شبابه بكتب سارتر وماركس وهمنغواي، لاعتقاده طويلاً، بأن الموروث العربي متحجر ومضاد للحداثة. من جهةٍ أخرى، يعدّد شاكر الأنباري الجسور التي عبرها في القراءة والكتابة، وصولاً إلى القراءة الإلكترونية، وكيف فقد كمبيوتره الشخصي إذ سرقته عاهرة عابرة في بغداد، ليخسر ملفات ومسودات أعماله المؤجلة.
يختتم صاحب «ليالي الكاكا» تجواله بين المدن والكتب بقوله «طريق الخيال يشبه البرق. يخبو سريعاً، ليترك المرء متخبّطاً في الظلام».