من هناك، من خلفَ الجِدران المتّسخة، والأبنية القديمة، جاءت رواية «اختفاء السيد لا أحد» (منشورات ضفاف/ الاختلاف ـــ 2019) للروائي الجزائري أحمد طيباوي. الرواية التي نالت «جائزة نجيب محفوظ» هذه السنة، جاءت لتصنع أبطالاً حقيقيين يُثبتون أنّ «لا حدود للحلم الإنساني» على حدّ تعبير الراوي. أتوا يَحملون الكثير مِن الحكايا عن عالمٍ لا نُلقي له بالاً، بلْ لربّما نعتقدُ أنّه غير موجودٍ تماماً، لأنّنا مشغولون بمشاكلنا الصغيرة، في حين هناك حيث الهامش أفراد يتعاركون من أجلِ البقاء، يمتصُّ حياتهم نفسها، يعيشون على هامشِ الهامش نكايةً بالوجود ذاته، من دون اسم ولا حتّى وثيقة تثبتُ أنّ الحياة كانت منصفةً معهم.

فهم لا أحد في نظر مَن يَعتبرون أنفسهم أحداً واثنين وثلاثة. لعلّ الأدب وُجد هنا لينصفهم، ويوضح للقارئ فكرة الهامش، ورمزية الوجود مِن وجهة نظر الأدب، في عملٍ روائيّ ليس بعيداً عن الواقع المعيش، ولا قريباً منه، بقدر ما هو قريبٌ من فكرة الرواية التي تخوض في الصراع القائم من أجل الاستمرار في عالم يُصرّ منذ الأزل على أنّ الحياة مضرّة بالصحة لمن لم يستطِع إليها سبيلاً. تقارب الرواية طروحات فلسفية حول الإنسان وجدوى بقائه في مجتمعٍ قد يأخذ منه كلّ شيء بالتقسيط، فلا يكادُ يعثر في الأخير على ما يثبتُ وجوده، حتى ينتهي به المطاف بتضييع بطاقة تعريفه التي بمجرّد عثوره عليها، يرميها كي يتخلّص مِن وجودٍ بقي فقط على الأوراق، لكنّه غاب عن الحياة.
لعلّ شخصية «السيد لا أحد» في الرواية هي ردّ اعتبار لكلّ هؤلاء الذين لم يصنّفهم التاريخ ولا الجغرافيا ولا الظروف ولا المجتمعات. انتصروا فقط في صنع هامشهم في وجود أنكرهم.
لم يقيّد الكاتب شخصية «السيد لا أحد» في الرواية، بل أفسح لها المجال كي تُعبّر عن نفسها وتتفاعل مع الحياة في قالبٍ روائيّ يُعيدنا إلى الشخصيات الروائية الحقيقية التي تُبنى مِن صميم المُجتمعات المظلومة والمقهورة.
ففي رواية «اختفاء السيد لا أحد»، لا ينقلُ الكاتب واقع المجتمع كما هو، في حكاية قد نسمعها من الكثير، بل، يعبّر روائياً عن هؤلاء، من دون أنْ يُفقد الرواية قُدرتها على الإمتاع، واستيعابها لكلّ شيء، فحتّى الحبّ ـــ برغم فظاعة ما تقدّمه الرواية ـــ كان له وجوده، ما يحيلنا إلى قول ماريو فارغاس يوسا الذي يرى أنّ «‏الحبّ كان حاضراً دوماً في الأدب، ومن النادر جداً أن نجد عملاً أدبياً قد خلا تماماً من الإشارة إلى تلك التجربة الأساسيّة في الحياة. ولو جرّدنا الأدب من كلّ تلك العواطف الغراميّة والمُغامرات العاطفيّة، لفَقُر بشكل كبير».
نالت الرواية «جائزة نجيب محفوظ» هذه السنة


في البداية، يعرض الكاتب شخصية «السيد لا أحد» وبداياتها، معاناتها من الفقد الذي أصبح رديفاً لها بدءاً بالوالدين، إلى المربيّة إلى الـ «سي مبروك»، هذا المُجاهد الذي تركه ابنه برفقة «السيد لا أحد» ليسافر إلى ألمانيا بشكل عبثي، من دون أدنى مراعاة أو شفقة لما يُمكن أن تصير إليه وضعية والده وحالته الصحيّة. يجد «السيد لا أحد» نفسه معيلاً للشيخ، وهو الذي رأى أنّ «ضعف الشيخوخة إذلال للإنسان إن لم يجد من يتولّاه». لكن بُمجرّد موت الشيخ، يداهمه الفقد فجأة متحوّلاً هذه المرّة إلى نقمة أيضاً. إذ أنّ القضاء يشكّك في أنّ «السيد لا أحد» أقدم على قتل الشيخ، مع أنّ ميتته كانت طبيعية وفق ما أكدّ الأطباء. سُرعان ما يتحوّل «السيد لا أحد» إلى مختفٍ، ومن هنا تظهر لنا شخصية المحقّق رفيق ناصري الذي لفرط بحثه عن «السيد لا أحد» يتماهى هو الآخر في هذه الشخصية. إذ يعبّر الكاتب من خلاله عن واقع آخر وظروف أخرى تبيّن للقارئ أنّ اللا أحد يحتمل وجوهاً كثيرة: قد يكون اللا أحد متعلماً يملك منصباً، لكنّه محرومٌ مِن الإنجاب ويُعاني هو الآخر من مهنة يفترض أنّ أساسها العدالة. نستخلص كلّ ذلك مِن خلال هذين الشخصين والشخصيات الأخرى كعثمان لاغوش (بمعنى يساري الاتجاه) والأعمش حارس الذي اختلقَ لنفسه مهنة منصفة من وجهة نظره وهي المتاجرة بعظام الموتى الأغنياء كي يسدّد ديونه، فالفقر يفقد الإنسان كرامته. وكما جاء على لسان الراوي: «لا معنى للكرامة وأنتَ جائع». أيضاً، هناك شخصية «عمّي المبروك» صاحب المقهى، ذلك العالم الصغير الذي تدور فيه الحياة على نحوٍ كبير.
حاول أحمد طيباوي أن يقارب روائياً صورة المجتمع التي قد نراها كأحداث، لكن لا نتفاعل معها إنسانياً في حكايات «تبدأ بوقائع بسيطة» على حد تعبير الراوي، إذ إنّه منح في «اختفاء السيد لا أحد» الصوت، لأبطال منسيين نسمع عن موتهم يومياً كأرقام فقط. الرواية جاءتْ لتكسّر فكرة البطولة السائدة في الأذهان، الشخصيّة النَمطية التي تعوّدنا عليها سواءً في الحياة أو في الأدب، لتقول بأنّ الأبطال هم «اللا أحد» الذي يحيون ويختفون من الحياة، من دون أنْ يتركوا أيّ أثرٍ فيها نراه بعين البطولة، لكنهم يصنعون في الحياة كل الأدوار.
غير أنّ سؤال الرواية الأهم: هلْ يكفي أنْ نكونَ على قيد الحياة، لنثبتَ صحّة وجودنا، أم أنّ الحياة مجرّد فكرة عبثيّة، ليستْ في متناولِ الجميع؟