من يعرف الكلب ريكو يعرف أنّه كلبٌ مجنونٌ تماماً. عاش في الحيّ طويلاً، لكنّه ظلّ ينبح على ساكنيه في رواحهم وغدوّهم، كبيرهم وصغيرهم، بالأمس عضّ ابن دلال صاحبة الدّكان فيما كان يوصل علبة السّجائر إلى بيت العم سليم «كلبك عض امّي... حلفت بسنّها الذهب لتقتله» قال الصّبي وهو يغلق باب البيت ويركض كأنّه رأى شبحاً.
إدوار ماني: بورتريه الكلب مِينَايْ (زيت على قماش، حوالي 1879)

يدخّن العم سليم سيجارته، يلتذّ أو يغيب جالساً تحت شجرة التّين الوارفة الظّلال التي تمتصّ سحب الدّخان، يدخل الكلب ريكو فيجده قد حضّر له طعامه وتركه على الأريكة الحمراء، واكتفى بالجلوس فوق إحدى الكراسي الخشبيّة الخمس التي باخَ لونها، يدور حول الصّحن الذي وضع فيه العم سليم ما تبقّى من وجبته، قليلًا من يخنة الفاصولياء الخالية من اللحم، وبعض الأرز بالشعيريّة الذي تغيّر طعمه ولونه إذ طهاه سليم من أربعة أيّام.
يتعارك ريكو مع كلاب الحيّ، يعوي بصوتٍ حاد، تتشاءم زوجة جاره العسكريّ وهي تنفض بذلة زوجها، تتمتم بسورة الفلق، وتغمض عينيها وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرّجيم الذي يسكن روح ريكو كما تقول لزوجها: «إنّه ملعون، قلت لك أطلق عليه رصاصةً وأرِحنا من شرّه». سيقصد زوجها بيت العم سليم بعد يومين، سيصبّ له العم سليم فنجان قهوة، سيهذي الرّجل بكلامٍ عن الجيرة وحبّ النّاس للعمّ سليم ولأولاده، ويترحَّم على زوجته ويسأل عن حال أولاده، سينظر إليه العم سليم وقد ارتدى بيجامة نومه، ويترك مكانه بهدوء، سيظنّ العسكريّ أنّ جاره ذهب ليحضر ألبوم الصّور، كما يفعل المسنون، لكنّه بعد أن لاحظ أنّه يطالع ساعته منذ ربع ساعة، يتحرّك باتجاه الباب، ويترك ريكو يحفّ برجله لاهثاً متوجّهاً إلى أريكته الحمراء وهو خارج.
لا يعرف العم سليم أين يكون ريكو حين يخرج من البيت صباحاً، وهو لا يكترث، لطالما قال لمن يتشكّى من عوائه «ليس كلبي... بتقوصوه بتسمموه بتشووه ما دخلني». ولكن ما إن يخطو عتبة الباب حين عودته حتّى يأتي الكلب يحمحم ويشمشم ويجلس على الأريكة ريثما يخلع معطفه ويعلّقه، وفي الأيّام التي لا يكون لدى سليم أيّ طعام يكتفي ريكو بنظرةٍ طويلةٍ نحوه، ثمّ يقصد الأريكة، يكوّر رأسه فوق رجليه ويغطّ في النّوم.
يتناقل الجيران قصصاً عن علاقة ريكو والعم سليم، منها أنّه وجده وهو عائد من عمله وجاء به وقد أصابته رصاصة في إحدى ساقيه، فعالجه، ومن يومها والرّجل متعلّق به كأنّه خامس أولاده، ومن تلك القصص أنّ ريكو أخذ اسمه من اسم أحد أولاد الرّجل، كان اسمه زكريّا، ووصل ببعضهم القول إنّ ريكو جاء به مَلك من السّماء «وصل رجل غريب في ليلةٍ ماطرة، رجل وجهه من نور، دقّ الجرس، وحين وصل سليم العتبة وجد قماشاً كاكيّ اللون، لم يمسسه المطر، وريكو ملفوفٌ ينظر إليه بعينيه البنيتين». أمّا القصّة التي يحبّ الأولاد أن يصدّقوها فهي أنّ ريكو كان كلب العائلة المدلّل، وحين توفوا واحداً واحداً في الحرب، ظلّ يرعى المُسنّ الذي ينكره لأنّه لا يودّ أن يتذكر الماضي.
يقف ريكو في زاوية الحيّ، يرفع ساقه ثمّ ينفض جسده النّحيل غير مكترثٍ بأحد، يمشي بوجهه المتهدّل وعينيه الغائرتين كأنّه تائه أو غائب، زوجة العسكريّ تلعنه من شرفتها وهي تردّ السّتارة في ذلك اليوم الذي احتدّت شمسه رغم البرد، يسمع صوت التلفزيون في بيت العم سليم، يهرول بقدر ما تسمح له مشيته العجوز، نشرة أخبار السّاعة الواحدة تصدح، البوابة مفتوحة، الكراسي القشّ الخمس الصّغيرة في أمكنتها، صحن الطّعام على الأريكة الحمراء فارغ، معطف العم سليم غير معلّق فهو لم يخلعه بعد جولته، جلس وأشعل سيجارة، شجرة التوت تمتصّ دخانها الأبيض. العم سليم جالسٌ فوق الأريكة الحمراء، ريكو ينظر نحوه، يلعق رجله ويقعي على ساقيه وحين لا يتحرّك، يجلس بجانبه، يطأطئ رأسه، وقبل أن يكوّره يعوي لمرّة أخيرة.
* صيدا/ فلسطين