إذا كان دانْتي قد برع في كتابة «الكوميديا الإلهيَّة» لتصبح نصّاً خالداً، فلا شكَّ في أنَّ الروائيَّ الإيطاليَّ جوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا قد برعَ هو الآخر في صياغة سيرةٍ ذاتيَّةٍ في نصوصٍ أشبَه ما تكون بالكوميديا البشريَّة. نصوص لا يجد فيها القارئ الحقيقة كما تُكتَب في السِّيَر، لكنَّه يعثرُ فيها على أساطير تقول حقيقةً عجزَ الواقع عن التعبير عنها. لا يمكنُ أنْ تقرأ كتاب «القصص» الذي صدرت نسخته العربية عن «منشورات المتوسِّط»، إلَّا بفكرٍ متوقّدٍ، كأنَّك تبحثُ عن شيءٍ ضاعَ منك. فقوَّة السَّرد وحُضور التَّاريخ يرسِّخان للنَّصِّ وجوده في ذاكرة قارئه، فنصوصٌ كهذه تأخذكَ إلى قصصٍ يُمكن فيها للحادثة البسيطة، بسحر الأدبِ، وبسَطوة الخيال، أن تصبح نصّاً مُبهراً يَجعل القارئ يتفاوض مع معانيه. إنَّه نصٌّ يصعب الإمساك فيه بروح المَعنى والقبض على بذرة الحياة، إذ زاوَج فيه لامبيدوزا بين الواقعيَّة الحسِّيَّة و«التَّاريخ كملكيَّة شخصيَّة» على حدِّ تعبير جواكينو لانتزا تومازي.

انطلق جوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا من الخاصِّ ليتناول العامَّ، في محاولةٍ لإسقاط الجِدار الفاصل بين الواقع والخيال، ليخلق عن طريق الخيال، فضاءه الرَّحب الذي يُعيد فيه خلقَ مساراتٍ جديدةٍ لحياته كي يفهم أخطاءه ومُعاناته. يحضرنا هنا قول إيفان إيليين: «وظيفة الأدب هي جعل النَّاس يفهمون مُعاناتهم». يشعر قارئ «القصص» بأنَّه يسير في شوارع إيطاليا تلك الفترة، يأكل قنافذ صِقلية البحريَّة، ويسترجع مع الرَّاوي ذكرياته وكأنَّها تخصُّه هو. لقد حوَّل الكاتب تدفّق الذاكرة بواسطة الخيال إلى نصوصٍ ذات صِلةٍ بالواقع، لكنَّها أقرب ما تكون إلى الأسطورة. فدي لامبيدوزا من الكُتَّاب الذين بإمكانهم استحضار الزَّمان والمكان في ذِهن المتلقِّي بعمق، وبجسارة، من دون مماحكة، حتَّى إنَّه يرصد تحرُّكات شُخوصه، اندفاعاتها، فلسفتها في الحياة وسُخريتها من كلِّ شيء. هو يمتلك براعةَ التَّصوير النَّفسي لشُخوصه. يبدو ذلك جليّاً في قصَّة «السِّيَرَانة» التي ترى مارغريت يورسنار أنَّها «الأكثر صدقاً بين كل حكايا السِّيَرَانات في تاريخ الأدب». وشخصيّاً، أعتقد أنَّ الأشياء الصَّادقة لا يمكن إلَّا أن تكون كذلك، حتى وإن كان فيها شيءٌ من الأسطورة، فالعمل الأدبي، مهما كان شكله، هو عبارة عن تصوّرٍٍ موازٍ لحياة الإنسان، وليس لحياته كما هي، وإلَّا فما قيمة الأدب في حياتنا؟ في هذا الصَّدد، يقول سانت بوف: «إنَّ العمل الأدبيَّ ما هو إلَّا نتاج أنا أخرى غير التي تظهر في عاداتنا ومجتمعنا وحياتنا». ففي قصَّة «السِّيَرانة»، خلق لامبيدوزا تصوُّراتٍ أخرى للحبِّ، وللعلاقة التي قد تنشأ بين بشريٍّ ومخلوقٍ نصفه حيوانٌ ونصفه الآخر إله، مخترقاً بذلك مخيِّلة القارئ التي اعتادت حتى في قصص السِّيَرَانات الخيالَ البحت الذي لا يمتُّ بأيِّ صلةٍ إلى الواقع. وهنا تبرز براعته كحكَّاءٍ يأخذك إلى أقاصي الحلم ليحقّق إنسانيَّة الإنسان، مُبرِزاً بذلك أهمِّيَّة الفكر الأسطوريِّ الذي يراه النَّاقد محمد الأمين بحري في كتابه «الأسطوري»: «إنَّ الفكر الأسطوريَّ خاصيَّة بشريَّة تاريخيَّة لا يمكن أن تتحقَّق إنسانيَّة الإنسان من دونها في كلِّ زمانٍ ومكان».
قوَّة السَّرد وحُضور التَّاريخ يرسِّخان للنَّصِّ وجوده في ذاكرة القارئ

فحكاية البروفيسور لاتشورا والسِّيَرَانة ليغيا (ابنة كاليوبي إحدى إلاهات الإلهام التِّسع في الميثولوجيا الإغريقيَّة) قصَّة خالدة تصلح لأن تكون بحدِّ ذاتها روايةً عن الكوميديا البشريَّة، ففيها تصويرٌ عميقٌ للوجود، للإنسان، للفقد، للحب، للعطاء اللَّامتناهي. كتب لامبيدوزا هذه القصَّة، التي سكنته 50 عاماً، قبل أشهرٍ قليلةٍ من وفاته، كأنَّه كتبها ليلتحق بالسِّيَرَانة، هو الذي أراد أن يبحث فيها عن ماهية الحبِّ والخسارة والتَّأمُّل في ما بعد الموت، التَّأمُّل في الموت حين يصبح مشروعاً لبداية لحلمٍ لم يكتمل في الحياة. كتبها وهو يتطلَّع إلى عالمٍ نورانيٍّ يجد فيه راحته. وربَّما كانت هذه القصَّة بالذَّات هي قصَّة الكاتب شخصيّاً مطعَّمةً بالخيال، فالقارئ يشعر أنَّ الكاتب كان يبحث بعد مرور تلك السَّنوات عن نفسه. فهو بدأ الكتابة متأخّراً ممَّا شكَّل لديه تجربةً استثنائيَّةً صقَلتْها خِبرة الحياة، وكذلك الموهبة التي تظهر واضحةً في خلق الخيال والأساطير للحديث عن إيطاليا، وعنه، من خلال شخصيَّة البروفيسور التي تبدو للقارئ للوهلة الأولى، معقَّدةً، ساخرةً، لكنَّها تحمل بداخلها كلَّ معاني الوجود السَّامية التي نأت عن حياة البشر العاديِّين. يبحث عن حبٍّ يُريه الطَّريق «نحو الرَّاحة الأبديَّة التي لا مِراءَ فيها، نحوَ الزُّهدِ بالحياةِ لا من بابِ العزوف عنها ولكن من باب استحالةِ قبولِ ملذَّاتٍ أخرى أدنى شأناً» على حدِّ تعبير الرَّاوي، إذ وجد البروفيسور في علاقته بالسِّيرانة ما يبحث عنه. راح يقول إنه: «في تلك العِناقات استمتعتُ بأسمى أشكال اللَّذَّة الرُّوحيَّة والبدائيَّة معاً، اللّذَّة المُجرَّدة من أيِّ صدى اجتماعيّ». أمَّا قصَّة «القطط العمياء»، فيمكن أن تكون هي الأخرى جُزءاً من رواية، لكنّ القَدر شاء أن تبقى قصَّةً برواياتٍ ونهاياتٍ مختلفة، متروكةً بيد القارئ ليؤوِّلها كيفما أراد. 
أمَّا ترجمة الشَّاعر السُّوري أمارجي لهذا العمل، فلا يمكن أن نطلق عليها مُسمَّى «ترجمة»، لأنَّها ببساطةٍ تتجاوز الفعل التَّرجميَّ إلى مشروعٍ بحثيٍّ قائمٍ بذاته. مشروعٍ لن تعثر فيه على معلومةٍ ناقصة، أو عبارةٍ غير مفهومة، فترجماته مرآةٌ لحساسيَّة الشَّاعر الذي يتعامل مع النَّصِّ بشكلٍ مختلف، ولإبداع المُترجم الذي يبعث النَّصَّ بلغةٍ أخرى، من دون أن ينتزع منه هويَّته. إنَّ مهارات التَّرجمة إبداعٌ ثانٍ يُضاهي جودة النَّصِّ الأصل ويتجاوزه إلى النَّصِّ الهدف ليخلقَ من التَّرجمةِ نصاً آخر يشبه في فكرته لوحة الموناليزا أين ولَّيت تنظر إليك، وهكذا هي ترجمة أمارجي، لا تخون الأصل بل تشبه اللُّغة الهدف، وفي الوقت ذاته هي نصٌّ آخر لا يشبه إلَّا لغة المترجم/ الشَّاعر، البعيدة عن الكلماتِ المستهلكة والكليشيهات الجاهزة. يقول جواكينو لانتزا تومازي: «غالباً ما يجدُ الزَّائر لقبر جوزيبِّه تومازي دي لامبيدوزا أزهاراً وضعها قُرَّاءٌ وجدوا في نصوصه فقرةً ما عقَدتْ صُلحاً بينهم وبين الحياة». فهل سيعقد القارئ صُلحاً مع الحياة، رغم الحروب والأوبئة والكوارث الطَّبيعيَّة التي يشهدها عصرنا أم ستظلُّ الكوميديا البشريَّة تكرِّر نفسها؟