هي حياة قصيرة عاصفة غاضبة ومتخمة بالضنك تلك التي عاشها الروائي والشاعر التشيلي روبرتو بولانو (1953 - 2003) قبل أن يخطفه موت مؤلم بفشل الكبد عشيّة ميلاده الخمسين، وبعدما كان اسمه ثالثاً في ترتيب القائمة الوطنيّة لتلقي الأعضاء الممنوحة من المتبرعين. بولانو الذي اشتهر في الأوساط اليساريّة التشيليّة ثوريّاً نزقاً، كان قد انتقل من المكسيك مكان إقامته إلى بلاده ليشارك في الدفاع عن المشروع الاشتراكي للرئيس الشهيد سيلفادور الليندي بداية السبعينيّات. لكنّ التجربة الحالمة ما لبثت أن أجهضت بعدما نفّذت المخابرات المركزيّة الأميركية وقتها انقلاباً دموياً.

وهناك رواية - يشكك بها بعضهم - بأن بولانو كان بين آلاف المعتقلين الذين قُبض عليهم وأُعدموا أو عذبوا بلا رحمة لسنوات في سجون نظام أوغستو بينوشيه الفاشي، لكنّه نجا بعدما عرفه اثنان من حرّاس السجن قيل إنهما كانا من رفاقه في المدرسة وساعداه على الهرب، لينتهي مهاجراً إلى إسبانيا يغسل الصحون في مطاعم كوستا برافا الرديئة. بين الهزيمة المرّة، والفقر الدائم، ولاحقاً المرض الذي أذبل روحه، كان بولانو ينشر قطعاً ودواوين شعريّة معتبراً نفسه في الدرجة الأولى «صائغ قصائد يكفيه الشعر، رغم أنني عاجلاً أم آجلاً ملزم بارتكاب ابتذال كتابة القصص». إلا أن رواية «المحققون المتوحشون» (1998) هي التي صنعت سمعته كأديب عالمي. عمل مشغول بلغة حادة كنصل وصريحة كبرق، يذكّرنا بأن تحت ذلك البناء الفوقي المتحضّر للعالم، ثمّة الكثير من العنف والقسوة والقهر. نصّ شاهق، يعبث بالكلمات والخيالات والحقائق وطرائق التعبير كثائر يستحصل على البهجة بالعمل على تناقض الأشياء والسخريّة المرّة من البشاعة والسخافة التي انتهت إليها الحياة بعد انتصار الفاشية الحاسم. رواية كأنها واحة من الرّعب في قلب صحراء من ملل، لكنّها كانت كافية ليصبح نجم المؤسسة الأدبيّة في أميركا اللاتينية. مع ذلك، فإن شيئاً من ذلك لم يعنِه كثيراً، إذ لطالما احتقر الثقافة والمثقفين، معتبراً دائماً بأنهم يمارسون الدعارة الأدبية ويوظفون كلماتهم كمخبرين عند من يدفع لهم أكثر، وفي أفضل الأحوال كعذر للتلطي وراءه بدلاً من القيام بأشياء حقيقيّة في العالم الحقيقيّ، «فكيف يتسنّى للنخبة المثقفة أن تقرض الشعر وتدبّج المقالات وتناقش الأبعاد الدقيقة للمسرح الطليعي بينما يعذب النّظام الفاشي الناس في الطوابق السفلية؟ وأي معنى تكتسبه قراءة «جمهوريّة» أفلاطون أثناء انقلاب عسكري؟».
نشرت أهم رواياته، لا سيّما رائعته «2666» بعد وفاته. ورويداً رويداً نقلت أعماله من الإسبانيّة إلى الإنكليزيّة ولغات عديدة أخرى لتطوبه أعظم كُتّاب جيله في أميركا اللاتينية، وأهمهم ربّما بعد ماركيز، وأصاب كثيرين بلوثة دفعتهم للبحث عن نصوصه وقراءتها جميعاً فور تورطهم في قراءة أي منها.
هذه المجموعة من القراء تحديداً مسّتها النشوة الغامرة هذا العام عندما أعلن ــ بعد 18 عاماً على غياب بولانو ــــ عن إصدار عمل جديد له لم ينشر من قبل اختير له اسم «قبور رعاة البقر» Cowboy Graves جمعت فيه ثلاثة مقاطع طويلة من مشاريع روائيّة وجدت بين أوراقه. ويبدو أنّ القدر لم يمهله لإكمالها، لكن روح كاتبها تنضح من كلماتها، كورود قضت من العطش، لكنّها احتفظت بهيبة الورد وعبيره الزكيّ. لعله يمكن تلمّس معالم مبثوثة في كل رواياته عبر المقطع الافتتاحي والأطول الذي منح اسمه للعمل المطبوع الأقرب إلى سيرة ذاتيّة، وعبر «الوطن» الذي يعدّ حكاية أخرى كأنّها هاربة من سيرة بولانو الذاتيّة عن أجواء الانقلاب الغادر في تشيلي 1973. بين هذين المقطعين يتموضع مقطع قصير مثيرٌ يحمل اسم «كوميديا الرّعب الفرنسيّة» عن مجموعة من الفنانين السرياليين يجسدون مهمتهم من خلال العيش في متاهة كثيفة من سراديب الموتى والمجاري تحت شوارع باريس، وسرعان ما
تتسرب الحسرة إلى القلب بعد انقضاء صفحاتها القليلة على الفرصة التي خسرناها لرؤية ما كان وراء ذاك الباب الذي فتحه بولانو إلى العالم السفلي قبل أن يأخذ المفاتيح معه ويرحل.
«قبور رعاة البقر» ليس بالتأكيد مكاناً مثاليّاً للانطلاق بقراءة بولانو للمرة الأولى، لكنّه جدير بأن يكون نص بدايات يليق بالنهاية. نم هادئاً بولانو، لم يتغيّر شيء في هذا العالم البائس منذ رحيلك. لكن قرّاءك الأوفياء أسعد قليلاً اليوم.