يترك الكاتب الفلسطيني نصار ابراهيم (مواليد بيت لحم)، صبيّه «حنظلة الراكض على حافة البحر» ويطرح أسئلته الصغيرة عن الوطن والذات، في روايته الجديدة الصادرة عن دار «خطوط وظلال» في الأردن. فيعطيه اسم حنظلة ربما ليذكرنا بناجي العلي، فهو لا يريد لأسماء الشخصيات أن تغادر أسماءً عرفناها و ألفناها وصارت جزءاً من ذاكرتنا ووجودنا، إنها اللغة التي ندافع فيها عن كل شيء حميم داخلنا وخارجنا. جعل الكاتب لحنظلة حلماً هو أن يصل إلى قريته «الشجرة»، وأن يكتشف من جديد معنى أن يكون هناك في مكانه ومكان ناجي العلي، لكنه على الطريق يكتشف حكايات كثيرة، وتواريخ مهمة فاصلة، شكّلت معنى الوطن وأصبحت جزءاً من الطريق. يتبادر هنا إلى ذهننا أن حنظلة هو كل فلسطيني، يتساءل عن معنى وجوده في هذا العالم، فيكتشف جذوره كل مرة من جديد، لكن الكاتب جعله يعود فقط إلى الذاكرة كي يتعشق برائحة تلك الروح الأصيلة التي تتمسك حتى آخر لحظة بمكانها، لم يكن حنظلة يغادر هذا الحيز، إنه يقرر أن تكون رحلته متشابكة مع أسئلة الهوية عند غسان كنفاني وناجي العلي وعبد القادر الحسيني وصولاً إلى عناة وبعل.
لم يجعل له الكاتب مكاناً ليطرح أسئلته هو عنها، في محاولة لجعله امتداداً لهم في الفكرة والروح، ولكنه ربما أهمل أن يكون لحنظلة حلم ببيت أو لعبة أو حلم بأن يكون طياراً مثلاً. لكنه نوّه إلى أن حنظلة يبحث عن ذاته وربما هنا تكمن رحلته الخاصة التي يحضر فيها الشيخ الكنعاني، ليسأله عن أشياء كثيرة وعن معنى تلك الرحلة، ليبقى الجواب عند حنظلة وليس عند الشيخ رغم حضوره، وهذا ما أعطى للرحلة معنى فردياً في عمق السؤال الوجودي عن الوطن.
المخيم جزء من الرحلة وجزء من فلسطين أيضاً


تتوازن أطراف تلك الرحلة عندما يكتشف حنظلة أنّ هناك بحارين غيره مثل غسان مثلاً، يحاوره ويناقشه ويكتشف أنه مثله وأن له في هذه الرحلة رفاقاً كثيرين. تحضر المخيمات أيضاً كجزء من الرحلة، والجميل هنا أيضاً أنّ جمال الرحلة التي يقوم بها حنظلة لا تعرف مكاناً واحداً في فلسطين، بل تعرف أن رحلة النضال هي فلسطين كلها في الداخل والشتات، فيحضر مخيم عين الحلوة ونهر البارد والرشيدية واليرموك والوحدات. المخيم جزء من الرحلة وجزء من فلسطين أيضاً، هكذا يريد الكاتب أن يقول.
هنا يتبادر إلى الذهن والمخيلة السؤال التالي: هل رحلة حنظلة هي رحلة الجماعة؟ وهي جوابه على سؤال الهوية؟ يبدو في الرواية أن الرحلتين متوازيتان تكمل إحداهما الأخرى، ذلك أنّ طريق حنظلة هو البحر الذي لا يفارق أبداً الحكاية الفلسطينية.
يسرد الكاتب رحلة حنظلة كأنه يريده أن يتابع وحده، وأن يفكر وحده بها. أن يخلق له مساحة للتفكير بما تعنيه تلك الرحلة، يجعله دائماً يتذكر أن فلسطين هي بوصلته كأنه يريد أن يحلم بها ومنها وفيها، وهذه بالتأكيد مهمة بطولية وعظيمة، إلا أنني شعرت أيضاً وأردت أن يتحدث قليلاً عن طفولته الصغيرة وما تعانيه تلك الطفولة المعذبة لطفل مثله في وطن محتل أو في مخيم.
الشيق في سرد نصار إبراهيم أنّ حضور التاريخ والقضية ووضوح الرؤية لم يجعلا اللغة تبتعد عن بساطتها، بل بقي وضوحها من وضوح ذلك الطريق الذي سلكه حنظلة، كأن الشخصيات التي سيجدها حنظلة ستتحدث ببساطة عن قصتها من دون أن تبالغ أو تقع في بلاغة ما، إنها الرحلة الجماعية التي لن ينساها أو كما يطمح الكاتب أن يبقيها كل حنظلة في وعيه.
«حنظلة الراكض على حافة البحر» دعوة إلى الإبحار مجدداً في عمق الحكاية الفلسطينية وسردها بطريقة مختلفة لأجيال تقف عند حافة البحر وتحلم أن تكمل طريقها. لكنها ليست حكاية، لأن الكاتب لم يسرد قصة تبدأ بحدث وتنتهي عند حدث، بل جعلها تأملاً في رحلة الحكايات التي مررنا بها. ولو أضاف حنظلة انطباعاته الطفولية أو تأملاته الوجودية عليها برأيي، ستكون أكثر عمقاً. ومن هنا يصبح هذا الطفل ليس فقط مرآة لهذه الأحداث والحكايات، بل مسائلاً ومناقشاً لها. هي رواية الفرد الفلسطيني وهو يبحث عن ذاته التي لا ولن تسير خارج رحلة الآلام التي مررنا بها كفلسطينيين كما تألمت معنا الطبيعة: البحر والشجر.