«لا يوجد دهّان في العالم، يستطيع أن يمحو اسمك». عبارة قالها الشاعر الراحل أحمد دحبور، في رثاء إميل حبيبي (1921-1996). اليوم يمكننا استعارة هذه العبارة وإهداؤها إلى اسم فلسطين بأكملها، وليس إلى حيفا وحدها، المدينة التي احتضنت جثمان الروائي الراحل، بعدما أوصى بكتابة «باقٍ في حيفا» على شاهدة قبره، كما سنستعيد أحد عناوين غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» كصورة للعودة يوماً ما. وما بين المشهدين، سيهتف محمود درويش «أيها المارّون بين الكلمات العابرة/ احملوا أسماءكم وانصرفوا/ واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا».هذا اليقين في رفض الاحتلال، وتأكيد الاسم الأصلي لفلسطين في قيد النفوس، يطيح بكل ما تحاول «إسرائيل» محوه، وإذا بالجدار العنصري العازل يتهاوى أمام قوة الذاكرة، ذلك أن الفلسطيني يعمل تاريخياً على بناء الذاكرة كسلاح غير قابل للنقض. نستعيد إميل حبيبي لأسبابٍ كثيرة، مئوية ولادته أولاً، ومرور ربع قرن على غيابه ثانياً، ومرور نحو نصف قرن على صدور روايته الفذّة «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل» (1974). ثالثاً، الرواية التي باتت علامة فارقة في السرد الحكائي العجائبي لجهة التجريب واستثمار الموروث العربي القديم في بناء الشخصية الروائية، وإذا بـ «المتشائل» يتحوّل إلى مصطلح دارج في الثقافة الشعبية، ذلك الشخص المتأرجح ما بين التفاؤل والتشاؤم من جهةٍ، وصورة عن الخائن والعميل والبراغماتي من جهةٍ ثانية، فهو لا يجد سبيلاً لحياته في ظل الاحتلال والهزيمة إلا بالسخرية والفكاهة في مقاومة اليأس والأسى. تكمن أهمية سرديات صاحب «سداسية الأيام الستة»، و«سرايا بنت الغول»، و«اخطية» إذاً، في تأصيل المرويات الشفهية والأساطير والمقامات والأمثال كقوة دفع للحفاظ على تراب المكان الأصلي قبل أن تلوّثه أقدام الغرباء بما لا يشبه تاريخه الطويل. وبصرف النظر عن سيرة إميل حبيبي الإشكالية، إلا أنه يظل مرآة فلسطينية غير قابلة للكسر، ذلك أن السخرية التي تتسرّب من مناخاته الروائية تجهض المآسي اليومية التي يعيشها الفلسطيني في ظلّ الاحتلال، وبصيغةٍ أخرى معالجة الكابوس بالفكاهة السوداء. في المقابل، ينظر المحتل إلى الفلسطيني بوصفه قنبلة موقوتة حتى لو أقدم على عرقلة السير عند تقاطع إشارة المرور لسببٍ ما (رواية اخطية). سنقع على السيرة المزدوجة لصاحب «لكع بن لكع» في «سرايا بنت الغول» خصوصاً، إذ يمزج ما بين الذاتي والعام، الملهاة والمأساة، بسرد هجين يستدعي المفارقة التي وجد الفلسطيني نفسه غارقاً في شبكتها المعقّدة داخلاً وخارجاً. هكذا يستنفر أشكالاً متجاورة لوضع التجربة في مهبّ الفانتازيا واللامعقول، مستثمراً عناصر متنافرة في نسج خيوط «التغريبة الفلسطينية»، حكاية وراء أخرى على طريقة «ألف ليلة وليلة»، مثلما يستحضر «صندوق العجب»، وتراجيديا الاقتلاع، بأقصى حالات الكثافة والخصوبة والهجاء. كأن فلسطين المتمرّدة اليوم، تردّ الدين إلى من سجّل تاريخها بكل وعورته، وقد كان إميل حبيبي في طليعة هؤلاء.