الهوية الفلسطينية صناعة النضالِ المسلّح والذاكرة، لكنّ الثانية تسبق الأولى في التحفيز وإضفاء العلة عليها. شهداء فلسطين منذ النكبة خالدون كشخصيات هوميروس. ماتوا بظلالهم فيما وجودهم المادي، في أسمائهم وظروفهم والسياق، بقي حياً حاضراً. وفي الحاضر، فاستذكارهم واستكمال نضالهم، هو ما يُسمى ضميراً. إلا أن مهمة الطاغي، على حدّ قول إدموند بيرك تكمن في «أن يخلق موطئ قدم في وعي العامة فيبقون صامتين» لأن فرض الصمت-وهو عدوانٌ مباشر- لا يعني فقط منع التماهي مع الذاكرة، والقطيعة معها، بل خنق الحاضر واستباحة المحتل، باستغلاله الفراغ الذي خلّفه «الضمير الصامت» وراءه، في أن يتحدث بلغته الفصيحة، وهي الجريمةُ وسفك الدم.
«حُماة القدس» للفنّان عبد الرحمن المزيّن في ملصق صادر عن «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» عام 1979 (مجموعة علي قزق، أرشيف المتحف الفلسطيني الرَّقمي)

في مراجعة سريعة للأيام الفائتة، يمكن ردّ علّة الأحداث الراهنة، التي من خلالها بات الإسرائيلي حراً طليقاً في لغته، للخطاب الإقصائي للمستوطن الشنيع «يعقوب» في حيّ الشيخ جراح، وفي سلوكه الاعتباطي، باليومي والعفوي، كنموذج مصغر لكيان «ما بعد يعقوبي». لكن المعركة سرعان ما تحوّلت الى حرب بين قطبين، تتمثل في ضميرين مختلفين: أحدهما مستتر، متواطئ مع «يعقوب» أو يُترجم لغته بصمته المتعمد، وآخر وقد ظهر مُفاجئاً على بغتة، وهو ضمير المتكلم.
ولهذا المتكلم كلامٌ، يأخذ أسماء عدّة، منها: بدر، شهاب، وغيرهما من صواريخ محلية الصنع، وأصلية اللهجة، تأتي كقول بليغ، خالٍ من الاستعارات الإنشائية والشفهية الضخمة التي اعتاد سماسرة القضايا تردادها، بل نوع آخر منه، يحاكي العقل وليس العاطفة. قول واقعي فجّ، يجابِه رأساً برأس، لغة المجازر والدم التي يتقنها المحتل، والذي يتكئ على صمت الضمير وتواطئه، في محوه الأدلة جراء صمته، أو بِزَجِّهِ القامعَ مع المقموع في خانةٍ واحدة بينما يقف شاهداً محايداً، أو مناصراً خجولاً، كمتضامن عطوف «إنساني».
ضمير المتكلم هنا «أناه» صلبة ونبرته حادّة. لا يدافع بدافع الثأر كفعل مؤجل، بل يذهب نحو «الارتكاس»، بالمعنى النّيتشَوي، أي ضرب الحديد حامياً؛ رد فعل لحظوّي إثرَ فعل تعرَّض له للتوّ، ما يجعله مسيطراً على الحبكة، وغير مشروط بتبعاتها السلبية من ناحية الانزلاق أو التدحرج.
المتكلم يتماهى مع كلامه، يحفظ ذاكرته جيداً ويعرف كيف يخرق الصمت وجداره. يعلم أن أساس اللغة مجموعة أصوات، فيبدع حرفاً جديداً ويضيفه على أحرف العلّة الثلاثة. حرف وطأته قاسية، لفظهُ صعب، يُحدث هروباً إلى الملاجئ، هرولة جراء الذعر، صفارات إنذار وذبحة قلبية. هو يعترف أن لكل مقام مقالاً، لذلك يخترق قبة الصمت الحديدية، ويجابه بالمثل. الكلام كصفة المتكلم. الكلام الذي يعبر عن قائله، فيجسّده. هو الكلام الذي يلعب دور المُترجم: انتقال من حالة الصمت إلى حالة الإدلاء، هو الصاروخ الذي يضع القدس عاصمة فلسطين والسيف مقابل الإذعان.
الحقائق على حالة الخرس كثيرة وعالمية وما زالت طازجة. تنطلق من قاعدة أنهم (الفلسطينيون) «شعب أعزل»، فتُعمم، ليعزلوا معها كل مناصرٍ ومنحاز. فالصمت باعتباره الوجه الناعم الآخر، للغة العدو، لا يحيا بإغفال المجازر أو قطع معابر الخبز فحسب، إنما بخنق الكلمة أيضاً، كحالة من الحصار الأوفر حظاً، لموت رمزيّ يطاول المعتقد لا الجسد. من اعتقالات شنّتها عاصمة الأنوار بحق مناصري القضية الفلسطينية وصولاً الى منصات التواصل الاجتماعي التي تقمّصت دور الديكتاتور في منعها إظهار وقائع الهولوكوست الجديدة، من بث صور وفيديوهات لمجازر تستهدف أطفالاً ومسنّين، وهي مجازر مقصودة بغاية قطع صيرورة الروح لشعب واحد من جيلين، لتضمحل الحكاية فتموت السردية، فيما تسمح لدعوات الإسرائيليين، لقتل العرب.
مهمة الطاغي، على حدّ قول إدموند بيرك، تكمن في «أن يخلق موطئ قدم في وعي العامة فيبقون صامتين»


لا يعرف الإسرائيلي غير القتل ولو في المجاز. يتذرع بضرب «أهداف استراتيجية»، فيما استراتيجيته ليست سوى نسف ملامح الحاضر بأسره. خطة قتل متعمدة للذاكرة بغية خلق استلاب من نوعٍ آخر، في غربة الأرض عن أرضها، إذ في قضائه على الراهن يخرّب الماضي، ليمتلك المستقبل في استحواذه على الحاضر. لكنّ صاحب اللسان الطليق في لغة الجريمة وسفك الدم، بقصفه للمؤسسات الإعلامية في غزّة، محاولة منه لتكبيل الصوت، واعتقاله لمكبّرات الصوت أو حتى البالونات (يبدو أن صدى «فقعتها» يخيفه) في حيّ الشيخ جراح، قد زاده عقاباً وجعله يفقد الصمت حليفاً له.
ومردّ هذا هو نتيجة الحرف، العلّة الرابعة الصادحة، بالأحرى: الصاروخ كقول، كقوّة دفعٍ جاهزة وفعل عنيد، في المجابهة حتى الرمق الأخير، وليصبح عندها القول العلني المنحاز لفلسطين اليوم «صاروخياً»: ملتهب وفتّاك ومقاوم للاحتلال اللفظي أولاً، وللوعي ثانياً، اللذين يراد تكبيلهما، صوتياً أو بالكلام، من خلال الصمت.
تراهم يحتشدون في الساحةِ ويطلقون بصوتٍ واحد شعار: «يا أبو عبيدة/ يا مغوار/ سمّعنا صوت الإنذار». ما الإنذار في الحالة هنا إلا استجابة، من مُرسل ملثم، يتناغم مع وسيطه العاري حتى الحرية، وهو القول ويعني الصاروخ، في مخاطبةٍ صاخبة، تعادي الصمت ولو جاء على شكل هدنة. قواعد القول اليوم باتت مرئية ومسموعة ومتفجرة وتعرب بالشكل التالي: صواريخ فلسطين تنقل قضية فلسطين من الحيّز الإنساني إلى الحيّز السياسي. وبينما الحيز الأوّل مطّاط، قابل للتمييع ومطلوب في سوق السمسرة، يرسخ الحيّز الثاني طريق فلسطين ويضعها على بوصلة التحرير، بوطأته الموجعة للمُستلب الذي ينتهك الوعي ويتحكم بالضمير من جهةٍ، وفي إنعاشه ذاكرة الكفاح المسلح باعتباره رئة من رئتَي الهوية الفلسطينية من جهةٍ أخرى.
في البداية، لا يحتاج صاحب الأرض الى علّة لتبرير وجوده، بَيد أنّ الصاروخ اليوم هو وجود العلّة لمن يطلبها (أو طالب فيها): صخرةُ سيزيف التي التأمت فيها حجارة الرجم، يرميها الملثمون «القائلون» عن ظهرهم، فتمحو ذاكرة الطاغية.