يحتفل العالم هذا العام، بدعوة من منظمة اليونيسكو، بالذكرى المئوية الثانية لميلاد فيودور دوستويفسكي (1821 ــ 1881) في برنامج يشمل معظم العواصم العالمية. لن ننظر إلى مكابداته الشاقة في عبور قرنين مضطربين، من موسكو إلى كل القارات، ليصبح اليوم واحداً من أيقونات الأدب الخالدة، فقد كانت حياته على الحافة. خطوات قليلة أبعدته عن الإعدام بالرصاص بسبب مناهضته للقيصر وإلا كنّا فقدنا 18 مجلداً من أعماله النفيسة أو كما يقول الروائي الروسي فالنتين راسبوتين «بفضل دوستويفسكي، تمكّن البشر من أن يعرفوا أشياء كثيرة عن ذواتهم، وما هو الشيء الذي لم يكونوا مستعدين بعد لإدراكه». في المقابل، لم تتمكن الحروب الإيديولوجية الشرسة التي خاضها معاصروه ضده، من الإطاحة بمنجزه الخلّاق بتهمة التشاؤم والسوداوية، وبأنه شخص مريض، و«بالغ الرداءة» وفقاً لما قاله لينين عنه. نظنّ بأن صاحب «ذكريات من بيت الموتى» قد ترك ندبة من نوعٍ ما في أرواح ملايين القراء اليوم، تبعاً للطعنات النفسية التي عالجها بعمق، وبما تنطوي عليه من مكاشفات خشنة تضع الفرد أمام مصيره الجحيمي وجهاً لوجه. على الأرجح، لقد خسرنا نصوصاً كان لها أن تكون أكثر إشعاعاً لو أتيح له أن يكتب على هواه، وليس تحت وطأة الديون وتسديد الفواتير المعيشية المؤجلة، ونوبات الصرع، إلى درجة أنه لم تتيسر له قراءة ما يكتبه. ورغم غزارته في الكتابة، كان يتساءل وهو يتجه إلى ساحة الإعدام: «هل من المعقول ألا أمسك القلم بيدي؟ يا إلهي ما أكثر الشخصيات التي ظلت حيّة، فهي ستهلك وتنطفئ في رأسي». هكذا أضحت روايات دوستويفسكي مرجعاً وملهماً للملايين. يعترف آينشتاين بأن دوستويفسكي ساعده على تطوير النظرية النسبية أكثر من علماء الرياضيات، كما أرشد فرويد إلى اكتشاف جوانب من النفس البشرية، والأمر ذاته بالنسبة إلى كافكا وهايديغر وآخرين. مائتا سنة لم تلغِ حضوره، إنما ازداد إشعاعاً، حتى إن الصحافية الفنلندية كريستينا روتكيرش وصفت الأدب الروسي ما بعد دوستويفسكي وانهيار الاتحاد السوفياتي بأنه «مئة صنف من السجق وفكرة واحدة»، في إشارة إلى نضوب الأدب ووفرة السلع الأخرى. وسوف يهدينا المترجم الراحل سامي الدروبي نسخةً عربية نفيسة لأعمال دوستويفسكي الكاملة التي رصدت أغلبيتها المناخ السياسي والاجتماعي الفوضوي لروسيا المعاصرة. منذ ذلك اليوم، سنتعرّف عن كثب إلى هذه الشخصية التي تحتشد بالألغاز، والورع والإثم، والشياطين والملائكة، جيلاً وراء آخر. هنا شهادات روائيين عرب عن تأثير صاحب «الإخوة كارامازوف» على تجاربهم في قراءة أعماله أولاً، وحضورها في كتاباتهم ثانياً
معلمي الكبير
واسيني الأعرج *

يعيدني سؤال دوستويفسكي وتأثيراته، إلى بداية مراهقتي في «ثانوية الشهيد ابن زرجب»، عندما مُنحتُ جائزة التفوق Le prix d›excellence، التي تُقدّم عادة للتلاميذ المتفوقين في نهاية السنة، وهي ثلاثة أنواع: الجائزة الشرفية، الجائزة التشجيعية وجائزة التفوق. وكنا نتنافس على مدار السنة للحصول عليها. الجميل في الجائزة أنها لم تكن نقدية، لكنها عبارة عن مجموعة من الكتب بالفرنسية، وقليل منها بالعربية. من بين كتب الجائزة التي كانت من حظّي، أتذكّر: «سوناتا إلى كروتزر» للكاتب ليون تولستوي، خمس روايات لدوستويفسكي. أي كل ما يجعل مني شيطاناً رجيماً بعد قراءتها: «المقامر»، و«الجريمة والعقاب»، و«الأبله»، و«الإخوة كارامازوف»، و«الشياطين».

لاسزلو فولدني ـ هنغاريا

من حسن حظي أني بدأت برواية «الجريمة والعقاب». عندما انتهيت من قراءتها، قضيت مدة طويلة أفكّر في الانتقام من الذين وشوا بوالدي بأنه كان مع الحركة الثورية، وتسببوا في استشهاده على كرسي التعذيب في الحقبة الاستعمارية، والانتقام أيضاً من الذين كانوا يشترون مصوغات أمي اليتيمة بأسعار زهيدة، والذين أخذوا جزءاً من أرضنا التي خلّفها الوالد. كنت أرى نفسي، في حالات السهو، متقمّصاً شخصية «راسكولينكوف»، وهو يجوب شوارع سان بطرسبورغ بعد تنفيذ جريمته الثنائية، ضد المرابية «إيلونا إيفانوفا» التي اشترت منه ساعته القديمة بسعر زهيد، وضد امرأة الصدفة التي شاء القدر أن توجد هناك في المكان والزمن غير المناسبين. من حظي أني قتلت أعداء أمي ذهنياً عشرات المرات، بالآلة الحادة نفسها، وأحياناً بالتسميم بلا ندم ولا صرخة راسكولنيكوف «لقد قتلتُ نفسي، وليس العجوز الشمطاء». قرأت بعدها «الأبله»، وأحسست أنّ بيني وبين الأمير ميشكين حقيقة شبه غريبة، في طيبته وتواضعه ومساعدته للغريب ولمن انقطعت به السبل. لهذا كرهت قريبته وحبيبته «أناستاسيا» الجميلة الساحرة، المحظية، المجنونة التي كانت تسخر من سذاجته. قبل أن أكتشف البعد الآخر في أعماق الأمير وتراجيديته. كل تلك الروايات التي قرأتها في وقت مبكر صنعت جزءاً مهماً من نظام الكتابة لديّ. عرفت أنها الروائع الأربع التي كتبها فيودور دوستويفسكي، بعد خروجه من إعدام نُفذ منه بصدفة، قبل تنفيذه بقليل وتحوّله إلى أعمال شاقة في سيبيريا. هذه الأعمال مجتمعة وغيرها، تعلّمت منها أشياء كثيرة في مجال الكتابة. أولاً: الإنسان ليس سطحاً متاحاً، فالمتاح كثيراً ما يكون خادعاً. ونحن عندما نكتب، علينا أن نأخذ هذا البعد النفسي في الاعتبار، فهو الحاسم في علاقتنا العملية مع الآخرين ومع بناء الشخصيات الروائية. لهذا فبناء الشخصية على صعيد الكتابة أعقد، وربما الإخفاق في نص من النصوص يبدأ من هنا. ثم المسافة في بنائها. صحيح أن في الشخصيات شيئاً من أنفاس الكاتب، مقامرة، سجينة، كارهة للحياة، سياسية، مصابة بالصرع، إلى غير ذلك، مثلاً، فقد عانى سميردياكوف في رواية «الإخوة كارامازوف» من نوبات الصرع، لكن ذلك كله لا يجعل منه دوستويفسكي. حياة دوستويفسكي نفسها تشكّل أكبر رواية حقيقية في تعقيدات مساراته الحياتية، وكيف نفذ من الإعدام بعدما اتُّهم بالانضمام إلى مجموعة سياسية مُعارضة للاستبداد القيصري والعبودية الروسية. وقد اتُّهمِ وقتها بقراءة الكتب والأعمال المحظورة، والمساعدة في نشرها وتعميمها، بالأخص كتاب بلنسكي «رسالة إلى غوغول». هناك لحظات غريبة في حياة بعض البشر، إذ أن المسافة بين الموت والحياة تكاد لا تُرى. في لحظة تنفيذ الإعدام، صدر حكم مخفّف، أربع سنوات سجناً في سيبيريا، قضى بعدها جزءاً منها هارباً من دائنيه. ثانياً: وهذا العنصر مرتبط بما قبله. إن الرواية ليست لحظة عابرة أو ضربة مزاج تجاه ما يحيط بنا، ولكنها عمل شاق، وأن الكتابة محنة مثل الحياة، وجلد كبير وحرية واسعة أيضاً مهما كانت المخاطر التي تحيط بنا، وإلا سنخسر مشروع الكتابة منذ اللحظة الأولى. الشبكة البنائية التي قاد بها رواياته مثل سيمفونيا كان فيها هو المايسترو بحنكته الكبيرة، تحتاج إلى قوة ذهنية تعمل فيها كل الحواس بشكل متشابك، ولا يوجد المقدس في البنية الروائية. كل شيء يمكن أن ينسف إبداعياً في أي لحظة من اللحظات. لم يكن يتنبأ سلفاً بمآلات شخصياته، هناك منطق الكاتب ومنطق الرواية اللذان يفرضان نفسيهما على المخطط المسبق. وما يبدو تنظيماً فوضوياً من منطق القراء والنقّاد تحديداً، قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى الكاتب. وكان التاريخ هو الحكم. فقد انتهكت رواية «الأبله» كل المواضعات الروائية وسارت في مسالكها الوعرة. لا توجد مسبقات شكلية، هذا كان مفصلاً أساسياً في روايات وإبداعات دوستويفسكي.
تعلمت منه أن الكتابة هي في النهاية نحن، الأفراد وعصرهم الذي يعيشونه، هي مسار إنساني معقّد غير معني بحجم الصفحات، لأنّ الكتابة في النهاية لا تحيل إلى حجمها ولكن إلى قوتها وتفصيلاتها المتجانسة التي تجعل من عالم لغوي تجريدي عالماً مرئياً حقيقياً من دقة الوصف وقوته. لهذا كثيراً ما أسخر من كلام «البدانة الروائية» لأن هذا المنطق اللاأدبي سيجعلنا نتخلّص من أجمل ما أبدعته العبقرية البشرية: ليون تولستوي، دوستويفسكي، جميس جويس، مارسيل بروست، نجيب محفوظ. قيمة النص الروائي تتجسّد في قوة نظامه الداخلي ومعناه المتجلّي في صلب العملية السردية.
* روائي جزائري

صناعة المصائر بلا شفقة
شهلا العجيلي *

ليس من الحكمة أن يقابل المرء نصوص دوستويفسكي في عمر مبكّر، في المرحلة الإعداديّة مثلاً، فهو حقّاً لن يعرف قيمتها، وربّما ستضجره وتكون مدخلاً سيّئاً لعالم قراءة الروايات! إنّ الحركات السرديّة في نصوص دوستويفسكيّ بعامّة، والحوارات، ومحاكاة الأفعال البشريّة، وما يسمّيه إمبرتو إيكو بـ «التهدئة»، وهي كثيرة جدّاً عند دوستويفسكي، لها مسوّغاتها المتعلّقة بالوعي التاريخي، في حين يبحث القارئ المبتدئ عن الحكاية، فهو، ومرّة أخرى كما يشير إيكو، يريد الدخول إلى الغابة ليخرج منها. والحكاية عند دوستويفسكي لا معنى لها من غير هذه المقاطعات التي يمكن للوعي التاريخيّ وحده أن يسوّغها. كما أنّ حكايته لا تسلّم نفسها بسهولة من غير معرفة التحوّلات التاريخيّة الكبرى التي بدأت بثورة 1848 في أوروبا، والتي عُرفت بربيع الأمم، ومعرفة العلاقة بالدين، والتشكّك، والقلق الوجوديّ، ستتحوّل بلا شكّ إلى حكاية مضجرة.
بالنسبة إليّ واجهت عالم دوستويفسكي في تلك المرحلة المبكّرة من قراءاتي، إذ حصلت على رواية «المقامر»، وأردت أن أدخل عالمه بسبب تحدّي الأقران، إذ كنّا في ذلك الوقت مجموعة من المعارف أو الأصدقاء الذين نحاول أن نثبت اختلافنا عن الآخرين بالقراءة. وحقيقة كانت قراءتها معاناة بالنسبة إليّ بعد قراءتي المنفلوطي، وإحسان عبد القدّوس، ونجيب محفوظ في الثلاثيّة وخان الخليلي، قرأت فيها قليلاً، ثمّ رميتها، وسبّبت لي عقدة العجز، لأنّني لم أمسك كتاباً من قبل فأتركه قبل أن أتمّه! الولد المتحذلق الذي أعطاني إيّاها كان قارئاً فهلويّاً في ذلك الوقت، وكان لأسرة شيوعيّة، وأشعرني حقّاً بضآلتي! كانت قراءة الأدب الروسي في أيّامنا امتيازاً ثقافيّاً، الجميع ينصحك به، لأكتشف لاحقاً أنّ أحداً منهم لم يكمل رواية واحدة ممّا أشاروا إليه! أبعدتني تلك التجربة مع دوستويفسكي عن الأدب الروسي سنوات، إلى أن عدت إليه مع تولستوي، في المرحلة الثانويّة، ومع «آنّا كارنينا» تحديداً، وبالطبع كنت ما زلت أبحث عن الحكاية، وحكاية تولستوي جذّابة، إذ ينقلك بيسر من عالم القصور إلى أكواخ الأقنان، ولكن صار لديّ وعي تأويليّ أوسع حينئذ، فالعيش في سوريا الثمانينيّات وبداية التسعينيّات، يمنحك قدراً من الوعي السياسيّ للتحوّلات الاقتصاديّة والطبقيّة التي تمكّنك من بعض التفسيرات الأخلاقيّة للشخصيّات والقياس عليها. تعرّفت بعدها إلى «معطف غوغول» التي شغلتني كثيراً، ثمّ تعلقت بقصص تشيخوف، إلى أن عدت إلى دوستويفسكي في دراستي الجامعيّة. إذ لا بدّ من دوستويفسكي لدراسة بيلنسكي وتشيرنيشفسكي ولوكاتش، أي لدراسة نظريّة الرواية بعامّة، فأفردت وقتاً طويلاً، ربّما أشهراً لدراسة تحليليّة دقيقة، لـ «الجريمة والعقاب»، و«الإخوة كارامازوف»، وأعمال روسية أخرى. عبر هذه الباب الواسع، دخلت إلى عالم مأساة إنسان دوستويفسكي، عالم مأساة الحنين إلى القيم القديمة لروسيا العظيمة، ثمّ آلام التحوّلات، والفصام الذي سينشأ عن العادة أو الراحة البورجوازيّة، وبين يقظة الضمير تجاه نبل مسعى الثورات، وكذلك بين انتقال العالم من حولك بين الإيمان الأرثوذوكسي المتجذّر وبين حداثة هبّطت السماء على رؤوس المؤمنين فكسّرتها. كان الناس من حولنا يظنّون أنّ كلّ كاتب روسيّ هو بالضرورة شيوعيّ أو تقدّميّ، أو يساريّ، ومؤدلج، ومتحذلق، يتسنّم المنبر الثقافيّ لاتحاد الفلاحين أو اتّحاد العمّال، ولا شكّ في أنّني وجدت في صدق دوستويفسكي عزاء كبيراً، وأنّ عداء كلّ من لينين وستالين له، رغم إعجاب الأخير به إعجاباً كبيراً، أعاد لي ثقتي بالأدب. قرأت «الجريمة والعقاب» ثلاث مرّات، كل منها لغاية، وتأثّرت بنوفيلا «الليالي البيضاء» جدّاً، ولا سيّما في صياغة المكان في رواياتي، فهذه الرواية الصغيرة لها مكانة في قلبي، ولي حلم بأن أقيم لفترة في سان بطرسبرغ، فأشهد ظاهرة لياليها البيضاء. قرأتها في الرقّة، وكنت أقول: لدينا نهر، ولديهم نهر، ولدينا جسور ولديهم جسور، فلماذا لا تكون لي رواية مثل هذه الرواية! كنت بالفعل أمشي نحو الفرات وأتخيّل الجسر ينفتح ويغلق مثل جسور سان بطرسبرغ على نهر نيفا! يجب على علاقات الحبّ أن تكون مرحة رغم كلّ شيء، وليس على الأقدار أن ترتّبها بالطريقة التي تسعد المتلقّي، بل بالطريقة التي ترضي الروائيّ. وفي هذا الإطار تعلّمت من دوستويفسكي أيضاً الحدّة والحسم في صناعة المصائر بلا شفقة. لكن لو سئلت عن أهمّ نصّ من نصوص دوستويفسكي بالنسبة إليّ، سأقول: «مذكّرات القبو». هي أيضاً رواية صغيرة تشاؤميّة، ومتذمّرة من عالم الحداثة والتحوّلات لإنسان القرن التاسع عشر، لكنّها تمتلك ديمومتها بسبب صدقها وعدم محاباتها لنظام الحكم، أو للإرادات القطيعيّة المزيّفة، ووقوفها ضدّ دعوى العالم المتحضّر. إنّها تشبه عالمنا، فنحن أيضاً نعيش في القبو، ونعاني من الادّعاء كما نعاني من الوعي، وما زلنا في القرن الحادي والعشرين نبحث عن إرادة مستقلّة ونعاني الأمرّين من أجلها! أمّا بالنسبة إلى الولد المتحذلق الذي تحدّاني برواية «المقامر» في الطفولة، فقد تعرّض لأحداث دراميّة غريبة، وأخذ في حياته قرارات مرعبة، وروائيّة، وأشبّه مصيره، للأسف، بمصير راسكولينكوف إلاّ قليلاً!
* روائية وأكاديمية سورية

عفاريت دوستويفسكي
وجدي الأهدل *

في الجامعة كنت طالباً ملولاً، أترك المحاضرات وأذهب إلى المكتبة لقراءة أيّ كتاب يُلفتني عنوانه. في واحدة من تلك الزيارات، وقع بصري على كتاب مجلد، رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي. بالطبع كنت قد سمعت عنه، ولكنني لم أكن قد قرأت له قط. من باب الفضول، قلت في نفسي لا ضرر من قراءة هذا الكاتب الشيوعي الملحد، الذي تبين لي لاحقاً أنه عكس ذلك تماماً. أخذتُ المجلد من الرف واقتحمت عالمه... طاولة القراءة مستطيلة بطول مترين تقريباً، ويقعد بجواري العديد من الطالبات والطلاب. وبعد ساعة تقريباً، عجزت عن متابعة القراءة، كانت أعصابي متوترة جداً وجسمي كله يرجف، خبأتُ يديَّ تحت الطاولة، ولكن واجهتني صعوبة في تقليب الصفحات... كنت أتنفس بصعوبة، كأن أحدهم يخنقني... ربما بسبب الصمت في المكتبة وهو إحساس خادع بالطبع؛ ظننت أن الأنظار مسلطة عليّ، وأن هذا الكاتب الروسي اللعين قد كشفني، وأن جلسة القراءة ستنتهي ولا ريب بتسليمي للشرطة! حتى ذلك الوقت، لم أكن قد ارتكبت أي جريمة قتل، ولكنني مدين لدوستويفسكي بالامتناع لاحقاً عن ارتكاب أي جرائم من هذا النوع.
بالطبع أعدت المجلد إلى موضعه، وخرجت من المكتبة زائغ النظرات، ووقتها ونظراً إلى صغر سني وقلة خبرتي في الحياة، ظننت أن أحد العفاريت قد اختبأ في ذلك المجلد، وأنا لسوء الحظ قد أيقظته من نومه. استعرتُ نسخة أخرى من مكتبة «دار الكتب الوطنية»، وأتممتُ قراءة «الجريمة والعقاب» في غرفتي، كمذنب يخشى افتضاح أمره. وبالمناسبة هو الكاتب الوحيد الذي تمكن من خلخلة عالمي النفسي، وكاد أن يحطمه على رأسي بتلك الطريقة المرعبة.
رأيي كقارئ أن قراءة أعمال دوستويفسكي تحتاج إلى قوة أعصاب، فمن كان يعاني من ضعف عصبي، عليه تجنب قراءة رواياته. لقد لاحظت أن الفن الروائي بصفة عامة يسهم في علاج الجهاز العصبي ويساعد على خفض التوتر، ولكن دوستويفسكي يكاد يكون الاستثناء الوحيد. إنه يضغط بشدة على الجهاز العصبي ويرفع درجة توترنا. ولكن لأي هدف؟ يبدو أن لهذه الجراحة الأدبية أثراً طبياً إيجابياً، لا نستدل عليه إلا عن طريق الندبة التي يتركها مشرط الجراحة في أرواحنا.
بالنسبة إلى تأثير دوستويفسكي عليّ ككاتب، لا شك في أنه ترك بصماته في أسلوبي الكتابي، فهو أثر حميد يأمل أيّ كاتب في الدنيا أن يستزيد منه، ولكن هيهات، فهذا الجبار قد بلغ الذروة العليا في استشفاف الروح البشرية، وأيّ كاتب يقرر السير على خطاه، يُعرِّض نفسه للانهيار العصبي مراراً وتكراراً إلى أن يتلف دماغه ويجنّ!
تقديري الشخصي أن دوستويفسكي امتلك قوة أعصاب تساوي ما يملكه الرجال والنساء في مدينة كاملة، وبدون هذه «الهبة» ما كان ليستطيع أن يتمم كتابة صفحة واحدة من أعماله الخالدة.
* روائي يمني

قارة الإنسان المجهولة
محمد أبو معتوق *

لأن روح دوستويفسكي وقلمه أبعد غوراً من الفلسفات وأقل حدة من تجهم الإيديولوجيات، فقد اختطّ لنفسه مساراً وسطاً، يقع بين الفلسفة والإيديولوجيا ليكون إلى جوارهما، من دون أن يتلوّث بإحداهما. لم يكن ساخراً ولا دعابياً في أدبه، ولكنه كان متأملاً حاراً، خلاف تجهم الثلوج والثياب السميكة التي تلفح بها الكائن الروسي. كان شديد الحرارة والتدفق، حادّ الارتياب والتأمل. هكذا اشتبكتُ قارئاً مع كائنات رواياته وأبطاله المضطربين، والمرضوضين بالزمان والمكان، والمتورطين بالوجود عبر آليات محكومة بسوء الفهم، وتجهم الشروط والزمان. ولعل بطل روايته «الجريمة والعقاب» مثال ساطع على هذا الطراز من الأداء، فقد اتخذ قراراً بالقتل بعدما وصل الى حافة الموت جوعاً واحتضاراً، ما جعله يبرر القتل، خصوصاً أنه يتعامل مع فئة من أرذل الناس، وهم فئة الصيارفة وتجار الرهونات، ليس بقصد التجارة وإنما بقصد الإمساك بالحياة وهي في لحظة انهيار. وكانت تلك المرأة العجوز واحدة من هؤلاء السفلة والأوغاد، بنظراتها المريبة، وشروطها القاسية كحد سيف الجلاد. عند هذا الحدّ، انتابت روح راسكولينكوف المكلومة، مشاعر تدعوه بعنف لارتكاب جريمته، لكنه لم يحصل على الخلاص، مستدعياً مشاعر الرغبة في إخضاع ذاته لأقصى عقاب، وإذا به يشيّد داخل نفسه جدران محكمته التي ستُنزل به القصاص. محكمة مجدولة من عصب القاتل والمقتول، من دون أن يلتمس الأعذار لنفسه، ذلك أن دوستويفسكي كان مولعاً بالمطلق. وفي روايته المذهلة «الأبله» حيث صاغ مسيحاً خاصاً، مسيحاً مكتظاً بالارتباك وبالأخطاء من دون خوارق وادعاءات. اليوم لن نتحسّر على استنزاف موهبته لمصلحة الصحف اليومية والأسبوعية لإيفاء ديونه، ففي هذا الاستنزاف كسبنا كقرّاء نهراً سردياً حافلاً بالعذوبة والحياة. نهر ألقينا فيه بذواتنا ورغباتنا وعناصر إبداعنا جميعاً وتبللنا بللاً عميقاً، لتخضر فينا شجرة الإبداع. لقد ألهم دوستويفسكي عصراً برمّته، كانت فيه أوروبا سيدة الأدب كله، ثم تحوّلت إلى سيدة المستعمرات بإشعالها الإيديولوجيات القومية، والطبقية، وهرطقات تفوّق العرق الأبيض. هكذا اقتحم دوستويفسكي قارة الإنسان المجهولة، ومحاولة فك مغاليقها العصية على الفهم والاحتواء، مبحراً بفحص توق الكائن وهواجسه في كل مكان، وتلك فتنة هذا الروائي المتفرّد، وكينونته الرسولية. أستعيد الآن السجالات التي رافقت روايته «الإخوة كارامازوف» وكيف أسرف النقّاد الأيديولوجيون وتعسّفوا في تأويل طبائع أبطالها والأحداث التي عصفت بهم، وحوّلوها إلى رواية إيديولوجية فانصرفت عن إكمالها. على الأرجح كنت متسرّعاً في الحكم عليها.

* روائي سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا