1. بعد أَن أموت
لا أريدُ
بعد أن أموتَ
أن أتحوَّل إلى «مانيكانٍ عجوز»
يقفُ وحيداً وراء الزجاجِ
كشبحٍ محشوّ بالقطن
خرج لتوِّه من الخدمة،
ليُمثِّل دورَه الأخير
في ذلك الفراغِ الملوّن
الذي تملأه البالونات.


ميلان كونش ـــ ملاك الموت (أكريليك على كانفاس ــ 200 × 160 سنتم ـــ 1980)


لا أريدُ
بعد أن أموتَ
أن أُصبحَ «ساعةَ حائط»،
تنامُ في مكانِها عُمْراً كاملاً
من أجل أن تُحصي النّدم،
مع كل تكّة تمرّ من العُمر،
لدرجةِ أنها
قد ترى اللصوصَ يدخلون خائفين،
ولا تستطيع
ـ حتّى ـ
أن تهشَّهم.

لا أريدُ أن أكونَ
نافذةً واسعةً
وسط المقابر،
حين أشرب أرتوي من دموعِ الحزانى
وحين أجوع
لا آكل إلا من خُبز «الأرواح».

إن كان ولا بد
أن أكون شيئاً
بعد أن أموت،
أتمنى أن أصبحَ عصفوراً نيلياً صغيراً،
يبني بيتاً هشّاً
فوق الشجرة العتيقة،
التي تُلقي برأسِها في النهر،
لأرى
ـ حتى وأنا أموت ـ
آخرَ قطرةِ ماء
أرسلتها العنايةُ الإلهية
وهي تذوبُ
عائدةً
إلى أمّها الأرض.

2. كبيتٍ تحنّ إليه الذّكريات
أعتقد أنكَ شاهدتَه،
يُحلق مُرتجفاً بين البيوت
رفرف بالقربِ من رأسك،
ذات مرة
وغنّى ـ كعادتهِ ـ بصوتٍ رفيع.

أنا صادفتُه اليوم،
كنتُ في الطريقِ وحْدي
ذاهباً ـ كالعادة ـ إلى المعركة،
فتوقفتُ لأنظرَ إليه،
كان يزأر منتفضاً
معلقاً قشَّة من شَجرِ الخريف،
بين فكَّيه
بينما يطيرُ بإصرارٍ بين البيوت.

صدِّقني،
هذه القشة،
التي كان يُنتظر منها أن تصيرَ بيتاً،
وأن تمنح الدفء ذات يومٍ
للصّغار،
هذه القشّة
الخارجة من قلبِ هذا العصفور،
ـ لا من فمه ـ
غادرتْ مستقبلها فجأةً
وسَقَطتْ في يدي،
صارت بيتاً بعيداً،
تحنّ إليه الذكريات.

3. الموتُ كما في شَريطٍ سينمائيّ تالف
كُل مرة
يمرّ فيها الموتُ
بالقربِ منّي
ـ هذه الأيام ـ
لم أعُد أشعر بالخوف،
لقد فَقَد الموتُ جلاله
وأصبح مُضحكاً في بعضِ الأحيان،
تفتحُ النافذةَ صباحاً
لتشمّ رائحةَ العالم،
فيندلقُ الموتُ كله
فجأةً
في وجهك.

تفتحُ النافذةَ
فتجدُ صلاةَ الجنازة مُقامَة
ـ تقريباً ـ في حديقةِ المنزل،
وترى العصافير على الأشجار
خاشعةً تماماً كأنَّها تُصلي،
و«النعش»،
«النعشُ» يا رجل كان منفوخاً
كامرأةٍ يضاجعُها موتٌ نحيف،
والمصلون كانوا متعجلين جداً،
لدرجة أنَّهم
كانوا يُحركون أكفَّهم المفتوحة
إلى آذانِهم كأشباحٍ مُشوَّهةٍ،
تُصلّي بسرعة
كما ـ لو كانت ـ في شَريطٍ سينمائيّ تالف.

حين انتهوا
انطلقوا بالسيارات
ومعهم نعشُهم
بينما الموتُ
كان يُمكنك أن تلمَحَه
تحت الغطاء
رافعاً كتفيه لأعلى
كرجلِ باتَ في قمَّة اليأس.

4. باتجاهِ المَغيب
قائداً سيارةً
كنتُ أحلم،
كنتُ أعبر الشوارع والأشجارَ بسرعة
كأنني أطير،
كنتُ أمسِك بيديَّ بعضَ النجوم
وألقي بها إلى العابرين.

قائداً سيارةً،
كنت أعبرُ الأنهار سعيداً
ـ بملابسي كاملةً ـ
في كل مرة أرتكبُ فيها
حادثاً مرورياً مروِّعاً.

كنتُ أقودها إلى مدنٍ بعيدة،
أبعد من كل الظنون،
حاربتُ بها أعداء،
وانتصرتُ عليهم
في نهايةِ المطاف.

سعيداً كنتُ أقود سيارتي
كل يوم،
باتجاه المغيب،
مادّاً قدميَّ فوق سجادةِ البيت
ـ التي جمّعتها أمي من بقايانا وملابسنا ـ
مديراً بين يديَّ
غطاءً نحاسياً نظيفاً
لأكبر «حَلّة»
في مَطبخِ أمي.

* القاهرة/مصر

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا