كتاب جديد صدر في تونس («دار محمد علي الحامي» بالتعاون مع «مكتب التعاون الأكاديمي لمؤسسة روزا لكسمبورغ») بعنوان «الحريات الفردية والمساواة بتونس بين التنوير والتكفير». الكتاب الجماعي الذي أشرفت عليه زينب التوجاني (أستاذة الحضارة في «كلية الآداب والفنون والإنسانيات» في منوبة) يرصد الجدل الذي عاشته تونس وما زال متواصلاً في الفضاء الافتراضي والمنابر السياسية والفكرية حول مبادرة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي (1926 ـــــ 2019) للمساواة في الإرث. مبادرة فشلت بسبب الإسلاميين وحلفائهم في مجلس النواب، فقد أراد الباجي قائد السبسي (تولى حقائب وزارية عدة منذ استقلال البلاد عام 1956) أن يواصل مشروع الزعيم الحبيب بورقيبة الملقّب بمحرّر المرأة بعد إصداره مجلة الأحوال الشخصية (13آب/ أغسطس 1956) التي كانت سابقة في العالمين العربي والإسلامي. إذ منعت تزويج الفتاة قبل سن 18وبدون رضاها، ومنعت تعدد الزوجات، وفرضت تعليمها. هذا ما حوّل تونس إلى نموذج في حرية المرأة. وقد أراد قائد السبسي تعزيز هذه المكاسب بفرض المساواة، لكن مبادرته اصطدمت حتى برفض بعض الأحزاب والشخصيات المحسوبة على التيار الحداثي!


هذا الكتاب يرصد الجدل الذي أثارته المبادرة من جوانبها القانونية والاجتماعية والدينية من خلال مساهمات مجموعة كبيرة من الباحثين في الحضارة والتاريخ والعلوم السياسية والقانونية. تقول زينب التوجاني إنّ الجدل حول المساواة والحريات كان سابقاً في تونس لمبادرة الباجي قائد السبسي، لكنه كان جدلاً مقتصراً على النخب والباحثين «ثم صار بفضل تلك المبادرة الرسمية مجالاً للحوار والصراع والاختلاف في الفضاءات التونسية المتنوّعة؛ وفي المواقع الافتراضية وفي المجالات السياسية والفكرية والإبداعية».
ووفق التوجاني، فإن هذا العمل يهدف «إلى تحليل عوائق الانتقال السياسي والاجتماعي من بنية التمييز وعدم المساواة، إلى بنية تقوم على قيم العدالة والمساواة والمواطنة وفهم عدم مرور مبادرة المساواة للتصويت وأسباب صعود تيار شعبوي إلى مجلس النواب حال دون إتمام المشروع التحديثي».
وكان تقرير «لجنة الحريات الفردية والمساواة» التي شكّلها الباجي قائد السبسي في عام 2017، أثار ردود فعل متباينة في الشارع والوسط الأكاديمي والثقافي وصلت إلى حد تكفير أعضاء اللجنة في عام 2018.
الكتاب الجماعي هو نتاج مؤتمر فكري نظّمه «المعهد العالي للإنسانيات التطبيقية» في قفصة (جنوب غرب) يندرج صدوره في سياق محدد، إذ «تزايد العنف تجاه المرأة بسبب الحجر الصحي كما انتكست القوى الحداثية في المشهد السياسي بصعود قوى شعبوية معادية للمرأة كما عبّر الرئيس قيس سعيد في 13 آب (أغسطس) الماضي (ذكرى صدور مجلة الأحوال الشخصية) عن موقف رافض لمبادرة الحرية والمساواة. لذلك كان إصدار هذا الكتاب محاولة لتدوين هذا الجدل الذي ما زال متواصلاً وقف التوجاني.
اختلفت زوايا تناول الجدل حول المساواة في مداخلات الباحثين في الكتاب: زهية جويرو (أستاذة الحضارة في جامعة منوبة) تناولت الخلفية الدينية للجدل حول مشروع الحريات الفردية والمساواة. إذ رأت أنّ هناك تفاوتاً «في القيمة العلمية بين خطابات المتجادلين. ففي حين كانت خطابات المعارضين في الغالب بيانات انفعالية يغلب عليها التحقير تجاه التقرير وتجاه مواقف الخصوم؛ وهو تحقير يصل إلى حد التكفير أحياناً وكيل الاتهامات بنبذ الشرع وبالتعدي على حدود الله وعلى أحكامه…. مقابل ذلك جاءت آراء المنافحين مبنية على منهجيات ومعارف حديثة». ونتيجة هذا الاختلاف، ترى جويرو «إمكانيات فتح أبواب جديدة أمام مراجعة العديد من القضايا ومن بينها قضية التعامل مع الموروث الديني عامة والفقهي بصفة خاصة».
واهتم محمد أنور الزياني (باحث في القانون) بالحريات الجنسية في تقرير «لجنة الحريات الفردية والمساواة»، معتبراً أنّ من بين الحقوق التي يجب تكريسها ومواءمتها مع «التوجهات الحديثة لحقوق الإنسان» الحقوق الجنسية التي لا تزال في تونس منسيّة وغير مكرّسة قانوناً. أكثر من ذلك، لا يزال عديد الأشخاص «اليوم يُحاكمون على أساس ممارستهم لها».
وتساءل عبد الرزاق الدغري (باحث في الحضارة العربية في جامعة القيروان) في مساهمته عن تقرير الحريات: هل يمكن اعتباره ثورة أم فتنة؟ وتوقف عند الذين نظموا تجمّعاً احتجاجياً في 18 آب (أغسطس) 2018 أمام مجلس النواب بمبادرة من «التنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستور والتنمية». وقال عن هؤلاء: «إن المشاركين ينتمون إلى القوى المحافظة والمتشدّدة ويمثلون انتماءات جندرية مختلفة، يعتقدون أن الناس يسيرون إلى حالة مثلى نزّلها اللّه ونصّ عليها القرآن (...) أمّا عن أنماط تفكيرهم؛ فيلوح بوضوح أنّهم جعلوا الأحكام الفقهية مقدّسة رغم أنّها في معظمها لا تتطابق مع مبدأ المواطنة وتضفي هالة من القداسة على اجتهادات بشرية وعلى بعض القوانين الوضعية».
كتاب جماعي يرصد الجدل الذي أحدثته مبادرة قائد السبسي حول المساواة في الإرث


تناول الكتاب قضايا أخرى مثل «قراءة في خطب الجمعة في الرد على تقرير «لجنة الحريات الفردية والمساواة»» (فؤاد عامري) وتقرير «لجنة الحرية والمساواة: تداولية السجال في خطاب النخبة والإعلام» (مهدي الحاجي)، و«أشكال تلقّي تقرير الحريات الفردية والمساواة: الدلالات والرهانات» (امبارك حامدي) و«مقاربة النخب التونسية لمسألة المساواة في الميراث من خلال كتاب ميراث النساء ووهم قطعية الدلالة» (فوزي غنيمي) و«ردود النخب الدينية والإعلامية حول مجلة الأحوال الشخصية وقانون المساواة في الميراث: دراسة مقارنة» (كوثر الحاجي)...
هذا الكتاب الجماعي يترجم حدة الجدل الذي تعيشه تونس منذ عشر سنوات والصراع بين الإسلاميين الذين يهيمنون على مفاصل الدولة، والمقاومة الثقافية والفكرية التي انخرطت فيها النخب والقوى الحداثية ضد مشروع الإخوان المسلمين الذين لم ينقطعوا عن التشكيك في كل مكاسب دولة الاستقلال، وخاصة حرية المرأة والتعليم والثقافة. وهم يعملون منذ صعودهم إلى السلطة في أواخر 2011 إلى تغيير النمط الاجتماعي للتونسيين واستهداف الحريات والتأسيس لنمط عيش موازٍ على المنوال الباكستاني والأفغاني، مستفيدين من التمويلات الضخمة التي تضخّها قطر وتركيا عبر شبكة كبيرة من الجمعيات الأهلية مثل «جمعية مرحمة» القطرية و«الإغاثة الإسلامية» و«الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين»...
صدور هذا الكتاب الجماعي يندرج ضمن المسار الذي انخرطت فيه النخب التونسية والحركة النسوية التي ناضلت من أجل المساواة في الميراث منذ السبعينيات. لكن مبادرة السبسي للأسف تمّ قتلها في المهد بسبب الإسلاميين والقوى المحافظة التي حقّقت انتصاراً كاسحاً في انتخابات 2019 في الوقت الذي انتكست فيه القوى الحداثية التي ساندت قائد السبسي في انتخابات 2014 وحزبه «نداء تونس»، ما ترتبت عنه انتكاسة كبيرة لمشروع التحديث.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا