ما كتبته الشاعرة الفلسطينية أسماء عزايزة في ديوانها «لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب» (منشورات المتوسط)، يُختزل بالتسمية التي أدرجتها الدار على الكتاب. تسمية ضمن ما يُعرف بالسهل الممتنع، كاختصار وافٍ لمكانة الأدب وقدرتهِ، وهو شعار «الأدب أقوى» (طبعة خاصّة بفلسطين). إنّه لأمرٌ بديهي أن يطغى موضوع الحرب، كفاجعة ملحمية، على شاعرةٍ فلسطينيةٍ يلتصق داخلها مع العالم الخارجي تماماً، ليتحوّل ما تكتبه إلى نص شعري فيه من الاعتراف جديّة درامية تضاهي وحشية ما رآه شاهد عيان. بعيداً عن البلاغة الجمالية التي تأخذ النص إلى حيّزٍ مُتَخَيَّلٍ لتفريغ عظمة مأساة الواقع، وبلعبة ذكية أجادت إتقانها، استطاعت الشاعرة عبر نفي ذاتي انطلق منه العنوان «لا تصدقوني» أن تنسف الرؤية الشعرية التي تقوم على التجميل والتزييف، ومن ثم التبرؤ منه، لتُحِلَّ رؤيتها الخاصة التي تنبثق من واقعيّة التعبير. تُطرح في الكتاب مواضيع أطّرتها الذات في علاقتها مع الحرب كارتكاس لها، وعلى هذا الأساس نجدُ اليوميّ في جوار العالمي، والبحثَ المحموم عن البدايات الخالية من الذنب والتردد، المفعمة بالأسى. تطرح الكاتبة ذاتيتها في النصوص من خلال أسئلة تتعلق بالتاريخ؛ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. طُرِحَت هذه المواضيع، بشكلٍ واقعيٍّ، فجّ وصادم، في قالب نثريّ متكتّل حيناً ومشهديّ حيناً آخر، بأسلوب حادّ، يكرس سيرة صاحبته: «أنا طفلة الأنابيب التي هجّنت في مختبر طبّي/ شممت رائحة خيول ميتة في منيّ أبي»/ «المشهد الأوّل...المشهد الأول مرةً أخرى».


لا شيء يتجزأ عند أسماء عزايزة. جميع التفاصيل مترابطة كأنها حلقة متراصّة ضمن نظام واحد متجانس، لا يمكن للواحدة أن تنفك عن الأخرى. لذلك، نجد في الأسلوب تجسيداً حقيقياً لمضمون عزايزة الشعري، من دون أن يلعب دوراً وظيفياً أو غاية منغلقة على ذاتها، بل هو الشكل الذي يبتغيه المضمون ليكتمل معناه. هذا التماهي ينطلق هنا ولا يتوقّفُ عنده، يتعداه ليغطّي طيف الحرب وذاتيّة الشاعرة فيها. إننا نتحدث عن التداخل كتقنية أجادت أسماء تسويغها في إطارها الشعري. وهذا التداخل، الذي يشبه الدائرة التي يفضي بعضها إلى بعض في حركيّتها، هي في أحد أبرز أوجهها حركيّة الموت المفروض من الخارج: «صرتُ صماء بعد أن عزفت طبول الحرب على طبلة أذني»، والصراع ضد هذا الموت بعد تعريته من الشعارات المقولبة حيث تعلن عزايزة «لا أريد أن أنتصر، لا أريد أن أموت فحسب». وفي الرفض للموت الكامن الذي يلاحق الفرد محاصراً إيّاه في أدق تفاصيل حياته، يبرز التداخل مجدداً، هذه المرّة بين الذات والحدث؛ بين الشاعرة والحرب، متكئةً على الاستعارة بقولها «كأن يواعد الشخص موته». في هذا التيقظ أمام فاجعة وجودية مهولة كهذه، تختار الشاعرة تحدّي الموت التعسفي ولو جاء ذلك رمزيّاً. عبر إحدى القصائد المهداة إلى المثقف المشتبك باسل الأعرج الذي اختار لموته مساراً، تهتدي الشاعرة بالمسار نفسه كنموذج مشتبك، فنقرأها تقول «أطرافي باردة وبليدة ولا تعرف الطريق إلى المقبض أحدق في تصوري عنها/ لا أهتدي إليها إلى ذلك الشعور الذي يصيبكم حين تأكلكم الحرب مثل خنزير بري/ ولا إلى الفزع المتوقع في حين أشعر بحمضه النووي في جسدي». لا يمكن إغفال الطابع الثقافي والمعرفي الذي وظفته الشاعرة في ما هو أكثر من إحالات، خدمةً للنص؛ بل من خلال الإبداع أو التأويل ومن ثم الخلق من جديد كمهمة تكمل القصيدة وتشكل عنصراً مهماً في بنيتها الجزئية. على غرار الشاعر الفلسطيني الأبرز محمود درويش الذي حمل صوت الجماعة وتكلم بلغة الأرض، نرى في قصيدة عزايزة «فرص للنجاة» أصداء درويش في قصيدته «لم يسألوا ماذا وراء الموت». ففي عبارته «حياتنا عبء على ليل المؤرّخ»، يطالعنا تعبير عزايزة «التاريخ الذي أصبح تاجراً أنيقاً وأميناً لمعارض جلودنا، جلودنا عملة صعبة...». لا يتوقف الأمر هنا، فالقصيدة التي تحمل عنوان «سايكو»، في إحالة إلى فيلم هيتشكوك الشهير، لم تكتف بالعنوان فحسب، بل حوّلته إلى ثيمة تطبع الحياة، وفي هذا تداخلٌ جديد برعت الشاعرة في تجسيده مرة أخرى: «أكتب قصائد عن الإنسانية وبشاعة الحروب/ عن العزلة ومنظورها الوجودي».
تُسقط عن كاهلها حمل الذنب الموروث، انتصاراً ليقظة الحاضر واختلاف الرؤية وظروف الصراع


وللتأكيد على الأمر، يطالعنا التضاد هذه المرة، مع عبارة الأديب الفلسطيني سلمان ناطور: «ستأكلنا الضباع، إن بقينا بلا ذاكرة» المُشار إليها في هامش الصفحة، ويتبدّى في النص التداخل عبر نداء مباشر تمثل في أفعال الأمر وفق نبرة تصاعدية واضحة: «اقتربوا.. ادخلوا.. التصقوا.. توحدوا». تُسقط أسماء عن كاهلها حمل الذنب الموروث، انتصاراً ليقظة الحاضر واختلاف الرؤية وظروف الصراع، فالماضي «هذا القط الفارسي/ هذا الماضي الذي يثب من يدي، ويرمقني بهدوء في الزاوية/ كيف يكون الحنين إلى هذا الجلاد الحقير؟». ضد هذه النوستالجيا لما يبدو جلّاداً حقيراً بالنسبة إلى الشاعرة، كان لا بد أن تعلن في نهاية القصيدة، حاسمةً المشهد: «سوف تأكلني الضباع». وسط هذا الجوّ الوصفي الساخط، حيث تدفع الشاعرة لغتها الشعرية إلى أبعد حدّ، كان لا بد لها من الإحالة إلى الأسطورة وربطها بالحيّز الواقعي التراجيدي الذي يسكنها. ففي قصيدتها الأخيرة «إستعارة» تكتب: «وأفرغتُ فيها أدمغة من سبقوني/ فيتعاظم الكذب...» وفي هذه الجملة تؤكد على ما كتبته في نص سابق حيث تأكل أبناءها على حد تعبيرها، وفي هذا إسقاط لأسطورة «لمياء» بنسختها الإغريقية حيث أكلت أبناءها بعدما مات أبناؤها السابقون غير الشرعيين قتلاً، لتمتثل أسماء عزايزة بهذا الفعل، وتتعامل مع قصائد المجموعة، بالطريقة عينها، بالنفي أو بالأحرى من خلال التبرّؤ منها. إذاً بات لدينا فهمٌ للالتباس عند شاعرة تكلمت عن الحرب، والحرب تكلمت بلغتها. فلنصدق حديث الشاعرة التي انتقدت مبالغة الشعراء «هل يحزن الشعراء لضرورة شعريّة؟ إذن، لماذا تبدو نصوصهم أشدّ حزناً منهم»، لأنها ممزوجة بين الحرب وارتداداتها، هي التي حوّلتها الحرب إلى «سايكو» غارقة في الحزن: «لأنني...السبب على طرف لساني/ لا/ الحزن هو الذي يقف على طرف لساني».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا