نعرف أن حليمة السعدية كانت مرضعة النبي محمد. وتخبرنا المصادر العربية أن أشراف مكة في الجاهلية دأبوا على البحث عن مرضعات لأولادهم في البوادي حول مكة. بذا، فقد كان تقليد المرضعات تقليداً اجتماعياً تمارسه نخبة مكة. فهل كان تقليد الرضاعة والمرضعات حقاً عادة اجتماعية مكية، أم أنه كان مسألة دينية يمارسها جزء محدّد من أهل مكة؟جوابي على هذا السؤال أن الأمر يتعلق بمسألة دينية لا بعادة اجتماعية. ووروده في القرآن يشير إلى أنه كان مسألة دينية في الأساس: «وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم» (البقرة 233). ليس ذلك فقط، بل يبدو أن الاسترضاع كان مسألة دينية كانت تمارسها طائفة واحدة من بين طوائف مكة الثلاث: (الحمس، الطلس والحلة) هي طائفة الحلة. وطائفة الحلة هي الطائفة التي كان ينتمي إليها بنو هاشم بن عبد مناف، عشيرة النبي محمد، على عكس ما تقول الغالبية الساحقة من المصادر القديمة التي تعتقد أن الرسول من طائفة الحمس، وأن مكة كلها من هذه الطائفة. وقد برهنت على أن بني هاشم، والرسول من بينهم، كانوا يتبعون طائفة الحلة في كتابي: «ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الحمس والطلس والحلة».
وقد ورد الخبر الذي يوحي إلى أن الرضاعة شأن ديني عند اليعقوبي. فهو يقول لنا إنّ الحمس: «لم يحولوا بين مرضعة ورضاعها، حتى يعافه» (تاريخ اليعقوبي). ويمكن الاستنتاج من هذا الخبر أن طائفة الحمس لم تكن تسترضع لأولادها، ولم تكن ترسلهم إلى المرضعات في البوادي. وبما أن عادات وطقوس الحلة تقع على الطرف النقيض تماماً من تلك التي لطائفة الحمس، فإنه يمكن الاستنتاج أن الاسترضاع كان يخص طائفة الحلة. أما طائفة الطلس، فلا نعرف إن كانت تتبع التقليد الحمسي أو الحلي بشأن الرضاعة. فهي طائفة وسطى تأخذ جزءاً من تقاليد الحمس وجزءاً من تقاليد الحلة.
وبما أن عائلة الرسول قد استرضعت له، وأرسلته إلى حليمة السعدية، فإن هذا يدعم أن الرسول من طائفة الحلة لا من طائفة الحمس، وأنه أُرسل إلى البادية انطلاقاً من تقليد هذا الطائفة.

موسى والرضاعة
وتقليد الاسترضاع قديم جداً. فقد ورد في قصة موسى في القرآن. وما جاء في القرآن عن طفولة موسى يوحي إلى أن تقليد طائفة الحلة قريب من الشِّرعة الموسوية، التي يبدو أنها هي الأخرى كانت تقطع الرضيع عن حليب أمه وترسله إلى مرضعة غيرها. وقصة رضاعة موسى تبدو معقّدة قليلاً. فبعدما خافت أمّه عليه من أن يقتله فرعون، جعلته في سلة وأرسلته في الماء. فعثرت عليه عائلة فرعون وتبنّته. وكان عليها أن تسترضع له امرأة ما. وقصة وضعه في السلة وتركه في النهر جاءت لكي تبرر رضاعته حليب امرأة أخرى غير أمه. فبما أن على أمه أن تتوقف عن إرضاعه عند لحظة معينة، فيجب البحث له عن مرضعة «تتبنّاه» وترضعه. وقد وُضع في السلة مبدئياً كي تُحلّ قصة المرضعة هذه. لكن الذي حصل أن موسى الطفل (وكلمة مس بالمصرية القديمة تعني: الطفل) رفض المرضعات كلهن. فكان على فرعون وعائلته أن يبحثوا له عن مرضعة ترضعه. لكنه رفض المرضعات كلهن. وهنا تقدّمت أخته لحل المشكلة من دون أن تعترف أنها أخته: «وحرّمنا عليه المراضع من قبل فقالت هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون» (القصص: 12). فسألوها: «قالوا لها: من يكفله؟ قالت: أمي. قالوا: ألأمّك لبن؟ قالت: لبن هارون. وكان هارون ولد فى سنة لا يُقتل فيها صبي، فقالوا: صدقت» (تفسير القرطبي). وفي تفسير آخر: «فقالت لهم أخته: هل أدلّكم على أهل بيت يكفلونه لكم؟ فقالوا لها: نعم، مَن تلك؟ فقالت: أمي. قالوا: وهل لها لبن؟ قالت: لبن هارون. فلما جاءت قبل ثديها» (تفسير حقي). وهكذا أعيد موسى إلى أمه لترضعه، فأرضعته من جديد: «فرددناه إلى أمّه كي تقرّ عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حقّ ولكن أكثرهم لا يعلمون» (القصص 13).
ويتّضح من كل هذا، أن موسى قد أعيد ليرضع من ثدي أمه عبر حيلة محددة: فقد رفض جميع مرضعات فرعون فأعيد بحيلة محددة إلى أمه ليرضع حليبها من جديد. وهذا يعني أنه جرى الالتزام بالشرط الديني الذي يقضي بإبعاد الطفل عن ثدي أمه وتسليمه لمرضعة غيرها لترضعه من جديد. فأمه لم تتقدم كأمه، بل تقدمت باعتبارها مرضعة أخرى بالأجرة. وهكذا فهو لم يرضع من ثدي أمه نظرياً، بل رضع من ثدي أخرى غريبة عنه. أي أن أمّه وُضعت في موضع مرضعة غريبة كي تتمكن من إرضاعه. لم يكن بإمكانها أن ترضعه كأمّه، لذا كان عليها أن تتبدّى كمرضعة لتفعل ذلك. بذا، فالبناء المعقّد لهذه القصة الدينية، قائم على فكرة المرضعة أولاً وأخيراً. وعبر هذا البناء احتيل على القانون الديني الذي يمنع الأم من إرضاع ابنها في لحظة ما. وهكذا، جرى الالتزام بحرفية القانون حيث أرضعت الطفل موسى مرضعة مأجورة، مع أنّه خرق عملياً من ناحية أخرى. أي أن التي أرضعته أمّه وليست أمّه في الوقت نفسه. إنها أمّه الحقيقية لكنها تبدّت كمرضعة بالأجرة استأجرها فرعون لإرضاعه.
فهم القصة على هذا الشكل يوضح لنا مسألة أن الاسترضاع ديني قديم في الأساس. كما أنه يوضح لنا قرب الشِّرعة الموسوية من شِرعة الحلة في مكة. وهو يفسر لنا لماذا كان موسى في شخصية مركزية في القرآن، ولماذا كان النبي محمد يسميه «أخي موسى» . فالرسول مرتبط بشِرعة مشابهة للشِّرعة الموسوية منذ الجاهلية.
ويمكن لي أن أقول، بشكل عام، إن طائفة الحلة كانت أقرب للشِّرعة الموسوية، أي أقرب لديانة بني إسرائيل القدماء، وليس لليهود واليهودية. فهناك فرق جوهري بين اليهودية وشِرعة بني إسرائيل. فهما في الصلب شِرعتان مختلفتان. طائفة الحمس هي التي كانت قريبة من اليهودية في معتقداتها. وهذا يفسر كثيراً من الأشياء والتحالفات التي حدثت في بداية الإسلام.

لبن هارون
شيء آخر، حين سئلت أخت موسى: ألأمّك لبن؟ أجابت: لبن هارون.
وكما نرى فنحن أمام جملة غامضة هنا: «لبن هارون»! وقد فهمتها المصادر العربية على أنها تعني اللبن نفسه الذي شرب منه هارون أخو موسى. ولو كان ذلك كذلك، لما كانت أخته في حاجة إلى أن تقول ذلك. إذ كان يكفي أن تقول: نعم عندها لبن. لكنها ألقت هذه الجملة الغامضة: «لبن هارون». والحال، أن من الممكن لجملة «لبن هارون» أن تعني: لبن الشاة، لا لبن أم موسى. فكلمة هارون تعني في اللغة المهرية: أغنام. والمهرية لغة سامية ما زالت حية حتى الآن في جنوب الجزيرة العربية، وتتكلّمها قبائل في عمان واليمن وجنوبيّ السعودية. وهذا ما قد يفيد بأن قصة الاسترضاع لها علاقة بالأغنام في الأصل. فأمّه كمرضعة تتبدّى كما لو أنها نعجة وليست أمّه.
الاسترضاع كان مسألة دينية تمارسها طائفة واحدة من بين طوائف مكّة الثلاث


ولدينا دعم لهذه الفرضية على ما ورد في قصة أبي رغال في المصادر العربية. فهناك نجد أن الشاة تتحول إلى أمّ للطفل. فقد كان أبو رغال عاملاً على العشور عند النبي صالح، فأرسله مرة في مَهمة: «فانتهى إلى رجل معه مائة شاة شصص، ومعه شاة والد، ومعه صبي ماتت أمّه بالأمس. فقال: إن رسول الله أرسلني إليك. فقال: مرحباً برسول الله وأهلاً، خذ. قال: فأخذ الشاة اللبون، فقال: إنما هي أمّ هذا الغلام بعد أمّه، خذ مكانها عشراً. قال: لا. قال: عشرين. قال: لا. قال: خمسين. قال: لا. قال: خذها كلها إلا هذه الشاة. قال: لا. قال: إن كنت تحب اللبن فأنا أحبه. فنثر كنانته ثم قال: اللهم تشهد! ثم فوق له بسهم فقتله» (الواقدي، المغازي). أما عند أبي الفرج، فقد مرّ أبو رغال: «برجل معه غنمٌ ومعه ابن له صغير ماتت أمّه فهو يرضع من شاةٍ ليست في الغنم لبونٌ غيرها، فأخذ الشاة؛ فناشده الله، وأعطاه عشراً فأبى، فأعطاه جميع الغنم فأبى. فلما رأى ذلك تنحّى، ثم نثل كنانته فرماه ففلق قلبه» (أبو الفرج الأصفهاني، الأغاني).
وهكذا، فقد ماتت أمّ الطفل، أي غابت ولم تعد قادرة على إرضاعه، فصارت الشاة أمّه: «إنما هي أمّ هذا الغلام بعد أمّه» . أكثر من ذلك وأهم، فإن جذر «رغل» العربي يعطي معنى رضاعة الجدي لأمه: «رَغَل الجدي وأَرغلها رضعها؛ قال الشاعر: يسبق فيها الحمل العَجِيَّا/ رَغْلاً، إِذا ما آنس العَشِيَّا. يقول: إِنه يبادر بالعشِّ إِلى الشاة يرغلها دون ولدها، يصفه باللؤم» (لسان العرب). عليه، فقد أراد أبو رغال، بلؤم كامل، أن يرغل حليب الغنمة- الأم بديلاً عن الطفل، فقُتل.

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا