ما زال أمر الجمل في الميثولوجيا العربية غير مبحوث بشكل جيد. أي ما زال معناه الميثولوجي غير واضح المعالم حتى الآن. وكنت قد اقترحت في أكثر من مداخلة لي أن الجمل تجسيد لسهيل النجم- الإله ورمز له. وقلت إنه لهذا السبب يدعى سهيل اليماني بـ «الفحل»، أي الجمل الذكر: «العرب تسمي سهيلاً الفَحل، تشبيهاً له بفحل الإِبل» (لسان العرب). يضيف الزمخشري: «يقال: أما ترى الفحل كيف يزهر [يبتعد وينفرد]؟ يراد سهيل. شبّهه في اعتزاله الكواكب بالفحل إذا اعتزل الشّول [النوق] بعد ضرابه [وصاله الجنسي]. قال ذو الرمة: وقد لاح للساري سهـيل كـأنـه/ قريع هجانٍ عارض الشّول جافر» (أساس البلاغة). والحق أن الأمر لا يتعلق بالتشبيه بل يتعلق بأنّ سهيلاً يتمثل بجمل بالفعل. كما أنني كنت اقترحت أيضاً، واستناداً إلى بيت شعر لعدي بن زيد، أن الجمل يمثل النقيض الميثولوجي للحية، أو قل يمثل الوجه المعاكس للحية. يقول البيت:
فكانت الحية الرقشاء إذ خلقت
كما ترى ناقة في الخلق أو جملا.
وهكذا فقد كانت الحية جملاً في وقت ما. يقول الجاحظ عن بيت عدي وقصيدته: «فإن قُلْتَ: إنَّ أميّة [بن الصلت] كانَ أعرابيّاً، وكان بَدَوِيّاً، وهذا من خرافاتِ أَعْرَاب الجاهليَّة، وزعمت أَنّ أُمَيّةَ لم يأخذ ذلك عن أهْل الكتاب فإني سأنْشِدُك لعدِيِّ بنِ زيدٍ، وكان نصرانيّاً دياناً، وتَرْجُمَاناً، وصاحبَ كتب، وكان من دُهاةِ أَهل ذلك الدَّهر. قال عديُّ بن زيدٍ، يذكرُ شأن آدم ومعصيتِه، وكيف أَغواه، وكيف دخل في الحية، وأَنَّ الحَية كانت في صورة جَمَلٍ فمسخها اللّهُ عقوبة لها، حين طاوعت عَدُوَّه على وليِّه، فقال:
..... .....
فكانت الحية الرقشاء إذ خلقت ...
كما ترى ناقة في الخلق أو جملا
..... ......
فلاطها الله إذ أغوت خلقت ...
طول الليالي ولم يجعل لها أجلا
تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت...
والترب تأكله حزناً وإن سهلا» (الجاحظ، الحيوان).
إذن، فقد كانت الحية عند خلقها ناقة أو جملاً، لكنها مُسخت حية حين أغوت آدم. والسؤال: لماذا يُمسخ الجمل إلى حية بالذات؟ ولِم لم يمسخ إلى شيء آخر؟ والجواب هو أن الجمل والحية قرينان يمثلان رمزياً وجهَي الكون المتعاكسين، وهما ينقلبان عند لحظة معينة. فالجمل يتحول في لحظة إلى حية، كما أن الحية تتحول إلى جمل في لحظة أخرى. أو قل إن الكون- الإله يكون في فصل محدد جملاً ثم يتحول إلى حية في فصل آخر. أي أننا مع تحول ومع تعاقب فصول، لا مع انمساخات.
وانطلاقاً من هذه الفرضية فقد فُسرت بشكل مختلف جذرياً الآية القرآنية التي تتحدث عن ولوج الجمل في سمّ الخياط: «إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَمِّ الخِيَاط» (الأعراف: 40). والتفسير السائد لجملة «حتى يلج الجمل في سَمِّ الخِيَاط» يقول: «حتى يدخل الجمل في ثقب الإبرة». أما أنا فقد قلت إن «الخياط» هي الحية، وإنّ «سمّ الخياط» يعني ثقب الحية الذي تختبئ فيه في بياتها الشتوي. بالتالي، فالآية لا تعني الاستحالة، بل تعني العودة إلى الزمن الذي ينقلب فيه الجمل إلى حية. أي تعني العودة إلى الزمن الذي كانت فيه الحية جملاً. بذا فالذين كفروا لن تفتح لهم أبواب السموات إلى أن يعود الكون إلى هيئته الأولى حين كانت الحية جملاً. أي أن الآية على علاقة مباشرة تقريباً ببيت عدي بن زيد.

قطعة أثرية تعرض لنا قصة الجمل والحية
والآن، يبدو أنني عثرت على دليل ملموس على ما استنتجته من قبل استنتاجاً. ففي أحد المواقع المختصّة لعارضي اللقى الأثرية والباحثين عن الذهب على كرة صغيرة منحوتة، تبدو حجرية، تُصور جملاً على أحد وجهيها، وحية على الوجه الآخر


وهذا يعني أنها تصور مشهد اقتران الحية بالجمل كما عرضه لنا بيت عدي، وكما أشارت إليه آية سورة الأعراف. فالكون دائرة تدور فتظهر الجمل أمامنا، ثم تدور فتظهر الحية. فهما رمز لوجهي الكون وفصليه المركزيين. يؤيد هذا أنّ القطعة ترينا في أعلاها، أي بين الجمل والحية، شكلاً مكوّناً من ثلاثة ثقوب: واحد كبير الحجم، وواحد متوسط، والثالث صغير.


هذا الشكل يمثل في ظني ثلاث نجوم سماوية، مرتبطة بالتقويم. أي أنها تشير إلى الانقلابات الفصلية ومواعيدها. وتقديري أن هذه النجوم الثلاث هي «نجوم الهقعة» الثلاث، التي تدعى أيضاً «رأس الجوزاء». كما أنها تسمى «الجوزاء الأولى». وهذه النجوم تطلع، من بعد غياب، حوالى منتصف أيار. وطلوعها هو بدء الصيف والحر عند القدماء. وحين تطلع، تنتهي رحلة النجعة التي تبدأ في أواخر أيلول، ويعود البداة إلى المحاضر، أي إلى مناطق المياه الدائمة. قال الساجع: «إذا طلعت الهقعة أدرستِ الفقعة، وتقوض الناس للقلعة، ورجعوا عن النجعة».

نجوم الهقعة الثلاث بالأحمر

بالتالي، فنحن مع قطعة ذات طابع روزنامي، تحدد النجوم المسؤولة عن الانقلابات الفصلية، وتخبرنا أن بدء سنتها يكون مع طلوع الهقعة، أي بداية الصيف الفعلي، لا الصيف الرسمي الذي نعرفه في نهاية حزيران. فالصيف الذي يبدأ في حزيران هو فصل القيظ عند العرب القدماء، أي فصل الحر الشديد. وإذا صحّ هذا، فهذه قطعة ثمينة تعرض لنا الفلسفة الكونية عند القدماء.
على كل حال، فالحية تتماهى ميثولوجياً مع الحمار. لهذا دخلت الحية إلى سفينة نوح من دبر الحمار. بالتالي، يكون لدينا عملياً الجمل والحمار كوجهين رمزيين للكون. وفي العدد القادم سوف أكتب إن تمكنت عن نبوة راكب الجمل ونبوة راكب الحمار. فقد جاء في سفر أشعيا: «فَرَأَى رُكَّابًا أَزْوَاجَ فُرْسَانٍ. رُكَّابَ حَمِيرٍ. رُكَّابَ جِمَال» (أشعيا 7:21).

* شاعر فلسطيني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا