ثم اجتمعَ الرفيقان مجدّداً في ذات الحانة البائسة. تتوسّطهما قنينة فودكا. هل تكون مغشوشة جدّاً هذه المرّة أيضاً؟- كيف حالك يا رجل؟، سأل حازم.
- أظنّ أنّني بحالٍ جيّدة، أجاب آدم.
- كيف ذلك؟ هل نسيتَ أين نعيش؟
المجموعة الفنية singul’art ــ «حانة» (مواد مختلفة، 2018)

- حتى ونحن نعيش هنا، الأمر ليس أين نعيش، بل كيف نعيش. أشعر ببساطة أنّ الحياة أصبحتْ جيّدة كفاية. لنقل إنّها جيّدة كطريق وصل إلى نهايته حيث لا مكان تقصده بعد تلك النقطة، لكن الطريق لا ينتهي عند حافة هاوية بل على ضفة بحيرة... ألا يبدو ذلك جيّداً؟
- لا.. الأمر يبدو وكأنّك تحاول أن تشتري لنفسك وهماً ليس أكثر.
- ليس صحيحاً، أشعر بهدوء وسكينة لم أعهدهما من قبل. حتّى إنّي بدأتُ بزراعة أنواعٍ مختلفةٍ من الصبّار في تلك الأصص الصغيرة، كما اشتريت منظاراً خاصّاً لمراقبة النجوم، أفعل ذلك كل يوم، أدوّن الملاحظات وأرسم الخرائط. ما الذي قد يعنيه ذلك سوى أنّني بحالٍ جيّدة؟
- ذلك يعني أن لديك مشاكل جدّية تتعلق بالانتصاب، لا أرى تفسيراً آخر. متى مارست الجنس آخر مرة؟ عليكَ أن تفعل ذلك سريعاً لتتأكّد ممّا أقول.
- بالطبع لا يمكن لأي حوار أن يصل إلى نتيجة طالما أن أحد طرفيه لا يجيد التفكير إلا من خلال قضيبه.
- الأمر ليس بالسخافة الذي تحاول أن تصوّره عليها... لم أرَ في ما قلتَه عن حياتك الجيّدة وصبّاراتك ونجومك سوى نوع من الهروب المفضوح. أنتَ ببساطة تحاول أن تتناسى كم أنت محبَطٌ وغير راضٍ عمّا أنت فيه، كما تحاول تجاهل حقيقة أنّ الوقت لم يعد كافياً لإصلاح أيّ شيء... والطريق التي تقنع نفسك أنّها تنتهي عند ضفّة بحيرة تنتهي في الحقيقة عند قبر مفتوح بانتظار أن يهيل أحدهم التراب فوقه... بصحّتك.
- عذراً، لن أشرب نخب هذا الهراء يا صديقي. أعرف ما الذي تحاول إقناعي به، تريد أن تقول إنّنا هُزِمنا تماماً - هزيمة نهائية - حيث لا مجال لمعركة أخيرة. وأنتَ شجاعٌ كفاية لتعترفَ بالهزيمة بينما أهرب من مواجهتها عبر إلهاءات تافهة على حدّ زعمك... حسناً! يمكنك أن تعتقد ما شئت لكنّني أجد في مراقبة النجوم وزراعة الصبار سلاماً وهدوءاً لم تمنحني إيّاهما أيٌّ من أحلامنا التي لهثنا وراءها لسنوات... بالنسبة إلي، شعرت في لحظة أنه من الأجدر بي أن أرمي المستقبل خلف ظهري وأن أمضي قدماً فقط نحو لحظتي الراهنة وأشيائي الصغيرة «التافهة».
- تتحدّث وكأنّك مقتنعٌ أنّك تستطيع رميَ المستقبل خلف ظهرك، لقد بدأتُ أقلق عليك حقّاً. هنا، رمانا المستقبل وراءه منذ ألف عام ومضى في طريقه دون أن يلتفت نحونا منذ ذلك الوقت... نحن كقافلة عاجزة عن السير والكلاب حولها لا تتوقف عن النباح، لا لشيء سوى لإثارة الضجيج المزعج.
- حسناً، حسناً! فلتحلّ عليّ اللعنة إذ اقترفت هذا الخطأ الفادح، وهُيِّئ لي أنّني بخير وأنّ الحياة ربّما تكون جيّدة... ولتحلّ اللعنة الأكبر على الحياة نفسها لأنها لم تتدبّر أن تسوق لي صديقاً أفضل منك يا كومة الروث.
- كومة الروث التي لا تعجبك ما زالت مفعمة بالحياة، ومليئة بالرغبة في المزيد من الحبّ والمؤخرات والثمالة المتواصلة... كومة الروث لا تخطط لتقاعد مبكّر أو متأخر أو أيّ هراء مشابه... يكفي كومة الروث أنّها لا تحمل في داخلها ندماً يجعلها تنتهي كمخنّث مخصيّ.
- كيف يعقل ألّا يكون لديك ما تندم عليه؟ هذا ليس إنسانياً حتى.
- هناك شيءٌ واحد فقط، وهو أقرب إلى الحسرة من الندم، إذ لا يدَ لي في تغييره. أتحسّر أن صديقنا الربّ لم يجعل مرورنا بالحياة على مرحلتين: مرحلة أولى بصفة بشري متدرّب، ومرحلة ثانية كبشري بدوام كامل محمّلٍ بكل الخبرة المكتسبة في فترة التدريب. لو أن الأمر يجري بهذا الشكل كنّا لنعيش حياة أكثر تبصّراً وقدرة على تمييز الفرص والانقضاض عليها.
- ما كنتَ لتقدّم مثل هذا الشرح لو لم يكن لديك الكثير لتندم عليه. أعتقد أنّنا وجهان لعملةٍ واحدة، كل ما في الأمر أن أحدنا واقعي جدّاً والآخر مجرّد أحمق كبير.
- سأقبل بذلك. شريطة أن تقرّ بأنّنا - وبرغم كوننا على طرفَي نقيض- ما زلنا ننتظر. هذا ما يجعلنا وجهين لعملة واحدة في النهاية. أليس كذلك؟
- بالطبع ما زلنا ننتظر، هذا ما يعنيه كوننا بشراً بطبيعة الحال. الانتظار جزء لا يتجزأ من العمليّة برمّتها و لا يقلّ أهمية عن بقيّة عناصرها. إن كنّا لا نحبّه فذلك لا يقلّل من أهميّته.
- نخب الانتظار.
- نخب الانتظار.
- يبدو أنّ الفودكا ليست مغشوشة اليوم، فقد بدأت أشعر أني بحالٍ جيدة، مثلك تماماً. بصحّتك، قال حازم ضاحكاً وهو يتّجه بكأسه صوب كأس رفيقه.
- سنرى بهذا الشأن. ما زال الوقت مبكّراً لنتأكد من ذلك، بصحّتك، ردّ آدم ذاهباً بكأسه لملاقاة كأس رفيقه.
رنّة عذبة ومحبّبة كانت نتيجة لقاء الكأسين. تلاها مباشرة دويّ انفجار هائل سوّى المكان بمن فيه بالأرض.
يبدو أنّ النهاية الرائعة لهذه السهرات حدثت بالفعل أخيراً. فحين انقشعت غيمة الغبار الكثيفة بعد بعض الوقت، كان بالإمكان رؤية جثة آدم الهامدة جالسة على الأرض مستندة بظهرها إلى الحائط مع رأس متدلٍّ نحو الأسفل، وخيط دمٍ رفيع يسيل من الأذن نزولاً باتجاه الذقن. أمّا جثة حازم فقد استلقتْ غير بعيدة يعلوها الكثير من الغبار والأنقاض. كان عنقه ملوياً بطريقة مضحكة، وعيناه المفتوحتان تنظران إلى آدم بمزيج من الذهول والبلاهة، وكأنهما تحاولان قول شيء من قبيل: ألم أقل لك: هل نسيتَ أين نعيش؟
ناما لوقتٍ طويل، طويلٍ جدّاً. حتى إنّ أحدهما لم يستيقظ بعدها على صداع رهيب ليقول: تبّاً! لقد كانت مغشوشةً جدّاً.
* اللاذقية/سوريا