من منطقة سرية يأخذه إليها الشعر، يأتي سرد الروائي والشاعر التشيلي أليخاندرو سامبرا (1975) ليكتب ما يفكر به عن الأدب، لكن بطريقته المرحة، هو الذي أسرّ عن تأثره بالروائي والشاعر التشيلي البارز روبيرتو بولانيو، مؤكداً أنه غير منزعج من مقارنته به. هنا تجربة آتية من لغة متخفّفة، كان أليخاندرو قد بدأها في نشر مجموعتين شعريتين قبل الدخول إلى النثر والرواية «كي يتخفّف من جدية العوالم الشعرية» كما يقول.

في «الحياة السرية للأشجار» (2007) الصادرة ترجمتها حديثاً عن «دار الساقي» (ترجمة محمد مصطفى)، نلمح تلك الرغبة في جعل الأدب يخترق الحياة، ويدخل إليها من باب واسع، فلا تعود الحدود بينهما واضحة. «الحياة تشبه كتاباً وُضع جانباً»، يقتبس الروائي التشيلي كلمات الشاعر الأميركي جون أشبري، التي تصف بدقة أجواء روايته التي تدور حول حدث يتشتّت ويتوسّع على طول الرواية، وهو حين يسرد خوليان، الكاتب والمعلم، قصة لابنة زوجته دانييلا عن «الحياة السرية للأشجار» قبل أن تعود زوجته فيرونيكا من درس الرسم. ويشدّد الكاتب على أن الرواية ستستمر ما دامت فيرونيكا غائبة، وستنتهي عندما تعود أو عندما يقتنع خوليان أنها لن تعود. لكن عندما تخلد دانييلا إلى النوم، يبدأ خوليان بسرد حكايته عن نفسه. تتمازج الحكايتان كي يصل خوليان إلى النقطة التي يطمح أن يصل إليها في المستقبل وهي أن تقرأ دانييلا روايته التي يكتبها، فبدأت دانييلا في البحث عن نفسها داخل رواية زوج أمها خوليان، لكنها لم تعثر على نفسها.
يحجز سامبرا شخصياته في غرفة في الفصل الأول، لكن في الفصل الثاني، نجدها خارج المنزل، لأن اليوم التالي قد بدأ ولأن خوليان اقتنع بأن زوجته لن تعود. الخروج إلى الحياة كان مشترطاً به الاستسلام لها، ونهاية السرد تنبئ ببداية جديدة حيث الوصول إلى الحاضر هو نهاية القصة التي يخبرها خوليان لابنته وتلك التي يقصّها عن نفسه. يهتم أليخاندرو بالزمن ويجعله يتشظّى بين ماض ومستقبل وحاضر، ويشعرنا أننا دائماً نتحرّك داخل أزمنة مختلفة فيما نحن ننتظر.
«لماذا يتعيّن إنقاذ القصص، كأنّ تلك القصص لا يمكن أن توجد من تلقاء نفسها؟» يسأل الراوي كأنه يفكر عن دانييلا. الراوي يقترب من البطل ويصبحان في مكان واحد، فيفكران ويتساءلان معاً، ويبدو أن اهتماماتهما واحدة. يسأل الراوي: من أفضل شخصية، أم أمها، أم زوج أمها؟ نشعر أن من يسأل هو دانييلا. إنها رغبة لدى الشاعر في جعل الراوي شخصية زائفة أو مستترة، وجعل الشخصيات تفكر بشكل أوضح بدون رقابة الراوي الذي كان في روايته السابقة «بونساي أو زهرة الحب» ينظر إلى الشخصيات من مسافة بعيدة كأنه قاض يضحك من تصرفاتها ويسخر منها أو يتعاطف معها في مكان آخر.
تتقاطع الحياة التي يسردها خوليان مع الفن وحياة الأشجار والسرد


تتقاطع الحياة التي يسردها خوليان مع الفن وحياة الأشجار والسرد، فتصبح الشخصيات مستمعة وقارئة، كأن الحكاية التي نستمع إليها عن الأشجار ما هي إلا ذريعة لنحكي قصتنا للعالم ريثما يعود شخص ما غائب أو نقتنع بأنه لن يعود. وهنا يأتي سؤالنا عن الكتابة: هل نكتب قصتنا من شخصيات تعيش معنا ونتخيل أننا في المستقبل سنقرأ الحكاية معاً؟ هل سنعثر على أنفسنا في تلك الحكاية؟ هل الرواية هي إعادة قراءة لما حدث معنا كأنه محاولة لجعله متاحاً لشخص آخر، فنتحول إلى قارئين بدلاً من تلك العلاقة بين الكاتب والقارئ؟ هذه الأسئلة تجعلنا نطل على عالم سامبرا ونحن نعلم أن فنية السرد هي جزء من اقتراحه الجمالي لجعل الرواية تقترب من عالم يحتمل التساؤل والتجريب.
تبدو روح الدعابة قادمة من إحساسه بأن جدوى الأدب ليس أكثر من قصة نسردها قبل النوم لنحتمل غياب شخص ما يهمنا، ولأن الراوي يقول إن دانييلا لا تحب الأدب، إلا أنها كانت تبحث عن نفسها في رواية أبيها. أمر يجعل القارئ يسأل عن جدوى الأدب ومن يقرأه. يسخر سامبرا من هذا الأمر ويجعل رحلة الرواية تنتهي حين تعود فيرونيكا في إشارة إلى أن الحياة لها القدرة على اختيار النهاية، التي يعلمنا سامبرا منذ البداية متى ستنتهي روايته.
هناك رغبة ما للاقتراب من الشفوية، من اللغة المحكية، من الاستماع والحكي، حيث تنام اللغة ويصحو الحكي، لتصير الحكاية جزءاً مهماً من الرواية، والقصة التي يحكيها خوليان لدانييلا «الحياة السرية للأشجار» قريبة جداً من روايته التي يكتبها. إنه جزء من مشروع أليخاندرو في جعل الرواية أقرب للحكاية وأبعد قليلاً منها في الوقت نفسه، وعينه على تلك المسافة بينهما التي تصغر وتكبر وتلتقيان معاً في مكان ما.
يعطي أليخاندرو أهمية في هذه النوفيلا للشخصي والأتوبيوغرافي، كأنه يؤمن أيضاً بأنهما مكان خصب للقصص والحكايا. يقترب منهما ويستمع إليهما تماماً. إنهما المكان الحميم الذي ننسج داخله كل القصص الأخرى، فيذهب خوليان إلى الماضي، يستمع إليه، ثم يتخيل شكلاً ما للمستقبل، وهو أن تقرأ دانييلا الحكاية. ورغم أنها لا تجد نفسها هناك، إلا أن في نهاية رواية سامبرا هذه، تكون هناك في صحبة خوليان كأنه يقول بلغة أخرى إن «الحياة السّرية للأشجار» هي الحكاية التي نحكيها عن أنفسنا.