أعادت «دار رواشن للنشر» أخيراً إصدار مجموعة «الله والحبّ اليابس» للشاعرة اللبنانية إنصاف الأعور معضاد، بعد ستة عقود من نشرها. وكانت الشاعرة قد رحلت عن عالمنا في عام 2013، مخلفةً ثماني مجموعات شعرية، والأعمال الشعرية الكاملة عام 2001. ويعد الناشر في مقدمة المجموعة بأن تكون هذه خطوة أولى نحو سلسلة منشورات للشاعرة. في نصوص هذه المجموعة، تصارع الشاعرة اللبنانية، مكوّنات الحياة اليابسة، تستدعيها، لتعرّيها أمام الوعي، وتضعها في نصابها الحقيقي أمام العين.معضاد تطرح صرخاتها في وجه الحياة المعتمة، وتعيد في نصوصها الضحكات المسروقة من ثغر النساء على طريقتها. فليس للمظلوم إلا حلم، يرى فيه ضحكاته التي طحنتها عجلة الزمن، وشراسة الإنسان. يمكن للشعر فعل ذلك، يمكنه كسر الجمود داخل الذهن البشري، ليحرك فيه أسئلة الحياة المشروعة، وينبت فيه شجرة، تعبر عن بذرة مدفونة في التراب لوقت طويل. إنها لحظات تأملية لرؤية الخضار مرة أخرى، وسط سواد الأشياء المحترقة من حولنا. تخاطب معضاد النكهة القاسية لتذوقنا مكوّنات العالم، بعقل عاش في منتصف القرن الماضي، وتدخل الشاعرة واقع الألفية الميلادية الثالثة، كأنها بعينها، ومن ثقب واسع، كانت ترى مستقبل الأرض، بعد ستة عقود. هذا عصر كورونا أيتها الشاعرة العابرة إلى كل زمن، هذا عصر فرقة البشر، وتباعدهم الاجتماعي، حيث ينكسر الإنسان الضعيف مرة أخرى، كان الشعر يراه هكذا وكنتِ أنت كذلكِ، بمعايير زمن ماض.


شعر معضاد ينطلق مكثفاً متراصّاً من دون فراغات، بلغة تحتاج إلى الغوص بعمق لاستكشافها. في ثيماته المختلفة، تظهر جمل الاعتراف، والجمل التوصيفية، الدائرية، حيث تعيد تكرار جمل مطلع النص في الكثير من قصائدها، وكأنها هي البؤرة التي تدور حولها بقية الصور، كما في نص «الله والحب اليابس».
في رحلة الإنسان مع البكاء، ينشغل الجسد بتفادي المزيد من الوخز، ويبحث عن طريقة لنسيان الأصوات المصاحبة للألم. ذلك الضجيج الذي يغطي على صوت الموسيقى في العالم، ليصمّ أذن الإنسان عن الجمال. إنها تأملات على شكل دمع أسود، تحاكي الشاعرة من خلالها هياكلَ صففها الألم في منتصف الطرقات، فتوقف الإنسان عن ممارسة فرحه. بهذه الشحنة الجافة تخاطب معضاد الحياة عبر نص «أيها الألم»، فتكتب: أيها الألم/ تقع وراء العين... وراء الخطى/ ونبكي، لأننا أجساد/
لأن لحومنا تدميها الدبابيس/ ونبكي، لأننا نقع وراء نفوسنا/ ولا نستطيع الرفض/ لا نستطيع شرب الماء/ أيها الألم/ بدون انقطاع نبكي/ لأن الجنون في بلادي دفن/ وضع في كهوف عتيقة/ يأكله العفن./ التراب البكر/ فقد رائحته الأولى/ بقينا دون جمال».
وبينما يمارس الإنسان ضعفه، يمارس الشعر ثورته وغضبه. لا شيء رقيقاً كالشعر، ولا شيء قاسياً مثله. بواسطة نصوصها، تُصدّر الشاعرة السياسة والعادات والتقاليد، وتوابيت المجتمع المتحكّمة بالإنسان، إلى مسرح العرض، باحثة عن اللحظة الكاشفة، لتصرخ في وجه ذلك كله، وتنهى، وتنفي وتنهر، وتتحدى كل الطواغيت بلغتها الحية. هنا جزء من فلسفة المجتمع المفروضة على جسد الأنثى، فلسفة جامدة، يتغير الوقت على الدوام، وتبقى هي ثابتة مثل قبر معتم. لم يكن اعترافاً بقدر ما هو سخرية، سلوك معضاد الشعري في وجه المجتمع، فإقرارها بأنها أنثى، تحترم الأسياد، وتخيفها رائحة الدم المسيطرة في قصص الجدة، يعتبر جَلداً صريحاً للنظام الاجتماعي، حيث تكتب في نص «لا تقطع يدي»: «لا تقطع يدي/ لا تصفع وجهي/ يتيمة يا سيدي/ يجب أن يحميني سقف/ إنني أنثى في هذه البلاد/ يجب أن ألبس الرداء/ وأحترم الأسياد./ أتذكر جدتي/ قبل كل نوم/ كانت تقص عليّ القصص/ عن نار جهنم/ وعذاب الدم... الدم»
وتؤكد الشاعرة في أكثر من مرة على أنها امرأة في هذا المجتمع. لا عن الناحية الفيزيائية تتحدث، وإنما عن فكرة المرأة في مجتمع يعتبرها «فضيحة» واجبة المواراة.
ولأنها كذلك، يجب قمعها أكثر، ومنعها عن الحياة، وإشباعها بالذل. هل تغير الحال بعد ستة عقود؟ فما زالت المرأة في الشرق تموت دون موت، وتنتهي تحت خوفها، كما تقول الشاعرة، في نص «مدينة قوافل النمل»: «أنا امرأة في هذه البلاد/ أنتهي تحت خوفي/ أموت بدون موت/ الرؤوس تتجمّع/ اللعنات تكبر/ ترسم وجوهاً ضالة كالثعابين».
شعر ينطلق مكثفاً متراصّاً من دون فراغات، بلغة تحتاج إلى الغوص بعمق لاستكشافها


ولطالما كان الشعر شريكاً في فهم الإنسان للآخر، فهو ممر خارج سياق الواقع الخشن، يعبره العاشق؛ ليجد الطرف الآخر، ويلامس، الخيط النقي فيه. وقد كان الحب في نص معضاد، بمثابة لوعة. حالة من التبخر، للطرف الآخر، خلف الأفق، خلف العالم كله، وما يكون للمشتاق من الإبحار نحوه، وحذف النوم من الحياة، إلا الانتهاء على حافة الوجه، كدمعة تدحرجت طويلاً. تكتب الشاعرة في نص «شراعي الأزرق»: «سرقني الشوق/ لا أعرف النوم يا حبيبي/ شراعي الأزرق/ يقطع الأفق الأزرق/ رائحة الربيع/ تعلق فوق صدري/ أنتهي/ كالدمعة على حدود الوجه».
أما عنوان المجموعة «الله والحب اليابس» فهو لنصّ ملحمي، تخطو فيه الشاعرة نحو باب العالم، لتنقش على سطحه أشكال الموت المختلفة في الأرض، وتكتب الأسئلة المتضخّمة، التي لا تصعد إلى السماء، عن الطبيعة وحِدّة سلوكها مع المرء، والجراح التي يحملها الإنسان حتى يتجعّد جلده، ويذهب عقله، ويتوارى جسده. وترصد أيضاً سخافة القتل، والخوف، والظلم، ونهايات الإنسان المكررة، ورتابة العيش مع الصورة ذاتها. تكتب معضاد نصاً طويلاً تتناول فيه حسرة الإنسان وخذلانه، وهذا جزء منه: «العين الزرقاء المحدّقة/ يا لشدة لهفتي/ لمن تشرق الشمس/ لتأكل لحومنا الطرية/ وتلقيها غباراً على الذراعين/ أجسادنا حبات قمح/ دُفنت في الأرض/ امتصّتها الرطوبة/ ظهر بخور مريم حزيناً/ وشقائق النعمان ضاحكة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا