1. تأمل في السرابغريبة هذه الوحشة التي تنبت في الأعماق، كأنها أعشاب. أمشي بين الغرف كأنني في غابة، لا تشبه غابة بودلير التي من رموز، بل هي الغابة التي أضعتكِ فيها، وسرت فارغاً من كل شيء. كل نوم تظهرين في أحلامي، وكم تكونين قريبة ودافئة وتبعثين على الطمأنينة. ألمس وجهك، أضع يدي بين نهديك وأضمك لئلا أفقدك. أعود وأقول لك نفس الكلمات التي أحببتِها، أملاً في أن تتكرر كل تلك الحياة. معاً، نمشي إلى أرض الغيبوبة، لا تقولين شيئاً، تسيرين معي فقط. وحين أنظر إلى عينيك أراهما غامضتين، وفيهما كثير من السراب. أنظر إلى عينيك وأعرف كم أنت بعيدة الآن.. حتى وأنا أضمك بيأس، حتى وأنا أستيقظ في الصباح وفي يدي أثر من رائحتك.
لم يعد للضوء من بعدك نفس السطوة على الظلام، أحرك صورتك في خيالي ليتغير شيء في عينيك، أحبهما باردتين، البرودة شيء يُغير، ليست كالدفء تافه وكسول، معه تصير العواطف مائعة وفيها خداع لا يدرك. لهذا أحببت الموت.. موت الآخرين، كان يجعلني بارداً كزجاج، يحرر عينيّ من الضوء، ولا شيء بعد ذلك... أغادر السرير، أذهب إلى المطبخ وأعد قهوة بسكّر كثير.

لوسيانو كاستيلّي ــ «عاشقان حزينان» (ريزين على كانفاس ـ 64 × 83 سنتم ــــ 1989)


2. الأرق
أحياناً ننام، فتمشي بأقدامنا أحلام وكوابيس تقود لا وعينا كأعمى.. كمن يؤسس بنوع من السحر بناية من زجاج. حيوانات غامضة وأسلحة متروكة في غرف سرية. كأنه إرث، أو خوف مما كان يوماً مجرد قطن في الرأس. حتى المسافة بين السرير والنافذة تصير رملاً متحركاً. ننام، وأحياناً نصحو.. فيأتي الصباح كعادته بضوء يجرح العين. قد لا تكون ثمة حدائق في العالم، لكن نباتات تنمو في منطقة ما من إحساسنا عندما نستيقظ. اليد لا تنتبه غالباً لأول شيء تلمسه، هي مجرد يد تلمس حتى تبرّر وجودها، وحتى تكون الحياة احتمالاً ما للفيزياء. نصحو، وأحياناً نغادر.. إلى أماكن لها تأثير المغناطيس. نحدس الفخاخ والجَمال وكل ما قد يصعد من بئر الذات. تكون لأجسادنا رائحة قتلة يحرقون خشباً مبللاً، أو ينظرون إلى دم يتسرب من شعورهم بالذنب. وتبقى الأشياء الأخرى مجرّد زجاج يمنع من الذهاب عميقاً داخل مرآة. نغادر، وأحياناً نعود.. بتعب ونبيذ في الأعضاء، وفراغ لا يصنع العزلة. تكون القسوة قد عادت لنعومتها، الأفكار لكسلها والمستنقع لصمته، فلا يبقى إلا دفء سجين في أدراج الرغبة. تتشقّق الجدران، تسكن أشباح رمادية عيوننا، فنتسلى بخياطة قميص قديم، قد يساعد ذلك على سقوط المطر، وقد يحدث شيء لا يشبه السراب.. نعود، وأحيانا ننام.

3. كمن يداعب ذئباً أليفاً
سأعوّد نفسي على الحنين وأكل البرتقال، لكي لا يخدعني مخمل اللذة ويهجرَ شبحكِ غرفتي. سيبدو السرير بعيداً أو مثل سراب، لا يصله الجسد ولا ترغبه الكوابيس. هناك، بين أعشاب سوداء، ستنمو رغباتك وستقفين مشوشة، أنفاسك لذيذة وترفرف حولك فراشات. الليل سيكون ليلاً فقط، أما أنت فالعتمة والبرد والنجوم القليلة، أو كل ما يجعل الخوف ضوءاً خافتاً يقود إلى فراغ غامض. أنا هنا، أحرس سريراً بارداً أو يكاد، أحرس يدي من ذئب الكتابة وأكتفي فقط بالبيانو وصمت الحملان. يوماً ما سأتخلى عما يتشقق في يدي، عن السرير البعيد والغرفة الغارقة في ضباب الكآبة، مثلكِ حين تحررت من خيوط وذهبت، كأنك ساحرة، تمشين فوق الماء العميق. رأيتك وأنت تغادرين، لم تنتظري ولو قليلاً، فقد كنت سأعمل على ترميم أصابعي لأخيط جرحاً أو أفتت خبزاً يابساً لطيورك. لكنك غادرتِ.. هكذا، وتركت وراءك من سيبتسمون مثل الجوكاندا.

4. هامش الخطأ
بعد قليل سنذهب، وسنترك وراءنا أثاثاً غالياً. سنذهب دون خرائط ولا حقائب، لن نركب قطارات أو سيارات. سيكون معنا فقط خيال قليل وأسرار في جيوب المعاطف. حتى الذكريات سنتركها طعاماً للقط العجوز. لم تعد لنا أشياء لنعيش من أجلها هنا، قد يكون في ذلك نوع من الحرية أو بعض من اليأس. عجوز آخر سنتركه وراءنا: إنه الأمل، سنتركه دون وداع ولا طعام. صور كثيرة ستبقى عائمة على مياه الصنبور المعطل، ومسودات وهدايا وأحذية قديمة. لا تزال زجاجة على رفوف المطبخ، سنتقاسم نبيذَها قبل أن نغادر. لن نبحث عن المفاتيح والأقفال، سنترك الأبواب مشرعة على الهواء والضوء واللصوص، مع علمنا أن لا أحد بعدنا سيأتي لإعادة بناء السراب. بعد قليل سنذهب، وسيظل الشِّعر هناك، في خلفية قليلة الإضاءة.

5. الأحمر
تراكم غبار ثقيل على زجاج الرغبة منذ ذهبتِ، فصرت أداوم على الأرق، أعمل -كأنني براتبٍ- حتى لا تصير الرغبة منحوتة.. حتى لا أنتبه ذات صباح كم مشى النمل في أرض الغرفة، كم مشى يتثاقل تحت وطأة ذكرياتكِ المنثورة حول الأثاث، كم مشى يسحبها إلى متحف النسيان ليعيد هيكلتها، كأنها مخطوط من خرائب قُمران. تراكم غبار ثقيل، وقليل من السنوات: أقول أحياناً هل هي عمر إضافي إلى رزنامة التعب؟ هل هي قطرة أخرى قد أفاضت كأس نبيذ الكسل؟ تراكم غبار ثقيل، كما لو ليشفق على زجاج مرآة تعودتْ على رقة صورتكِ المستوحشة داخلها، كما لو ليضمد شروخها، فهي بعدما غادرها خيالكِ –ببساطة- صارت تتصدّع أحياناً.

6. لعابكِ في فمي
لعابكِ لا يزال في فمي،
يحرك بداخلي عشباً شهوانياً، ربما لا يكفي هذا لترميم زجاج
الحياة، لا يكفي لارتقاء
أدراج معتمة في الأرق، ولا يكفي لمد الذات بخداع آخر.
كأنها اليد التي تسحب أعمى، وتمنحه برداً وثلجاً لأفكاره الملونة.
أنا لا أحبك. فقط أمشي على خيوط اللذة الرفيعة كبهلوان..
وكعنكبوت أحياناً. لا أحبك،
غالباً لأن حيوانات بداخلي أو ﻷنني كسول وفي رأسي تتأسس وتنهدم أشياء. قد تكون الجَمال، قد تكون الرغبة أو الأخطاء.
تنسين سحركِ بين يديّ. وأنسى يديّ على نعومة فخذيك. ومعاً ننسى، ونحاول الحب في خيال آخر..
أقوى من أفكارنا وأعلى من بناية
تغري بالانتحار.

7. مخدع الرغبة
أصعد سُلم ريشتر مرة أخرى! تزيح تلك اليدُ أصيصاً ويتشقق إطار مرآة. أمرّ ببهوكِ، أراك مرة أخرى تنفضين غباراً عن الستائر أو تُلمّعين بعض الأثاث. على يدي لا تزال آثار جرح وأنا ألمس بشرة انشغالك، وأنا أُمسّد كتفيك بحثاً عن مكمن إرهاقٍ ما. خشب السرير حتى في غيابك له صرير، يشبه إصرار شفتيك على الرغبة.. إصرار شفتيّ على اللذة، أو إصرار شفتينا معاً على ارتشاف مسعور... أحياناً تقولين هل هي كهرباء في عنقي أم في فمك؟ أحياناً أقول لك فمي أسير في مرتفعات صدرك. ونمرّ معاً، من أريكتك إلى فسحة السرير، قبل أن تنتحر رغبات على فوضى الشراشف.

8. أُحبكِ، فأكتب نثراً
تذوب قطعة السُكَّر بطيئاً في فمي. يصير للضجر مذاق آخر.. فأبتسم. لا تحملين إليّ وروداً، بل تفاحاً وحلوى ومياهاً معدنية. يسيل حنانٌ مفتعل من أصابعك حين تلمسين وجهي، فأظلّ مبتسماً. بعد قليل ستغادرين، وستغادر معك أنفاسٌ ورائحة وفرح. أنا أيضا ستغادرني أشياء. لن أبكي، ﻷن دموعي لن تتحول إلى بلورات، فقط أستعيد خيالاً تظهرين فيه عارية وخيالاً آخر أمشي فيه بأقدام من نحاس. أرغب في مغادرة المستشفى. أقول لك كلاماً عذباً، فتشعرين بشيء. تصيرين ــ هكذا ـــ شفافة. تقفين عند الباب، تبتسمين بحب، فينفجر الدم ساخناً من فمي.

9. عدتُ من شفتيكِ
عدتُ خائباً من شفتيكِ. رأيتُ جسدي متشققاً، خشيتُ أن تتهدم بداخلي أشياء اﻵخرين، فبنيتُ للرغبة سياجها. ورأيتكِ في غرفة باذخة يضاجعك لصوص متعبون. كنتِ امرأة تصهر الذهب في عينيّ، وكنت خائفاً. ركبت منطاداً وصعدت إلى السماء، فلم أجد غير ساعة حائطية معطلة ينام بداخلها ملائكة يائسون... سيندفق منيّ كثير على سريرك. ستنتصب فخاخ. وسيأتي من يحمل إليكِ الليل سائلاً في كفه.

10. الملاك اﻷزرق
قطار آخر سيصدم الرغبة، فيسيل دم قليل، وتكونين أنت بكل رخامك المكسور. سنضاجع الكوابيس، وسنذهب معاً في نوم عميق. الصباح ليس قُطناً يبلله النعاس، بل مطر غزير ينهمر في العواطف الفارغة.. عواطف المرأة الذاهبة إلى القتل. أنا أيضاً ذهبت، فتساقطت ثلوج وأعمدة وأحلام، واندفق السائل ساخناً على فخذيك. وكنت تشبهين الملاك اﻷزرق في إغوائك الذي يحطم الدمى في أيدينا. حينها فقط أدركتُ أننا مجرّد مسوخ يحرسون سهرتكِ، مجرد ظلال لجنس يُمارَس في المقصورات والمصاعد ودورات المياه. هل يكفي أن تمر يدي على لحمك تحت الدانتيلا، ﻷرتجف؟

* المغرب