فور دخولك رواية زياد كاج الجديدة «أمر فظيع يحصل» (دار نلسن)، يتضح لك حجم الفاجعة التي تنتظرك. الصفحات الأولى من المقدّمة كفيلة بأن تكون بياناً رسمياً واضحاً عمَدَ الكاتب إلى الإدلاء به لتفهم مباشرةً سبب هذه الرواية وموضوعها. إنّها مجزرة صبرا وشاتيلا «التي يجب أن لا تُنسى وأن تبقى ماثلة»، وشخصية الراوي المجبولة بأحداثٍ حقيقية تجلّت في عمله على طريقة اعترافات تنبثق من الصميم، يرويها الكاتب/ البطل. اعترافات ناتجة عن «تجربة شخصية مبنيّة على أحداث وتجارب حقيقية». صحيح أن واقعية هذا العمل مستمدّة من هذه التجربة الشخصية الموحشة، إنّما التصاق الكاتب ببطله والتقاء غايتهما في كتابة رواية تسرد أحداث مجزرة صبرا وشاتيلا والدائرة الزمنية التي تحيط بتلك الحادثة الضارية، أضفت بعداً حقيقياً ملموساً نجحت في نَقل المشهد على طبيعته، ليكون نصّه محسوساً، مادة خاماً نُزع عنها التجريد، ولنكون قد حظينا بنوع كتابة قريبة إلى السيرة الذاتية، إلّا أنّ زياد كاج أحبّ أن يجعل منها رواية.


وكان من الأجدر للكاتب أن يختار طريقاً مغايراً عن الرواية. إذ لا يفتقر إصداره إلى لغة الأدب فحسب، بل إلى مقوّماته الأساسية. في «أمر فظيع يحصل» قطيعة تامة مع العناصر التي تجعل الرواية عملاً فريداً بعيداً عن الحكاية والكلام غير «المُكودر» بإطارٍ شكلي، نسقٍ ما يسوّغ المضمون. والرواية بعيدة كليّاً عن العامل النفسي تفتقر تماماً إلى الوتيرة الذاتية التي يجب أن تتحلّى بها على الأقل الشخصية الرئيسية. أسلوبه السردي أقرب إلى الشفهية، فيه من السلاسة ما يجعلك تعتقد أنها عمل أُنجز بسرعة. وتستنتج أنه غفل في بعض الفصول عن إدراج المزيد من الأحداث والاسترسال بها أو حتى تكثيفها في حين أنه استبدلها بتصريحاتٍ ووثائقٍ ليكون قد انتقل من السرد إلى المقالة ومن ثم إلى التوثيق، مستعيناً بمراجع مثل كتاب بيان نويهض أو مذكرات الطبيبة السنغافورية سوي شانغ ان. هكذا، يخلع السرد طابعه الروائي ليتحوّل فجأة إلى نصٍّ توثيقي بحت. لكن يبقى موضوع هذه الرواية أساسياً ومهمّاً، جريئاً ومحزناً، ويكون لمن عايش ذلك الحدث بحذافيره وضحّى بحياته في سبيل تلك القضية، كالمؤلف، امتيازاً للكتابة عنه.
إذاً، نحن أمام اختبار حقيقيّ مدوّن، شهادة حيّة يدليها أحد الناجين من فظاعة الموت، شخص اختبر حدثاً استثنائياً يشبه إلى حدٍّ بعيد فيلم رعبٍ من الطراز الرفيع، شخصٌ تعلّم «مهنة دفن الموتى» دون إرادته.
موظفٌ كادح ودمث يعمل في مكتبة الجامعة، يتنزّه بين رفوف الكتب أو يجهّز القهوة لزملائه إبّان فترة الاستراحة، يفاجأ في أحد الأيام بزيارة صديق قديم له يُدعى الكابتن غسان. الأخير رافقه في أحلك الأيام وأعزّها على قلبه. برعا سويةً في تأدية واجبهما في الماضي، واستطاعا أن يكونا من الجنود المجهولين في ساحة المعركة لتعود به الذاكرة إلى الوراء وتلاحقه أدق تفاصيل تلك المرحلة: جثث القتلى الذين سقطوا في مجزرة صبرا وشاتيلا، الدماء، رائحة الموت وكل ذلك النفق المعتم الذي يأخذك في نزهة سريعة إلى الجحيم. هنا، يقرّر أن يكتب رواية يسرد فيها تجربته كمتطوّع في الدفاع المدني مع زمرةٍ أخرى من الأصدقاء، ويفصح فيها عن تفاصيل ذاك الزمن وأحداثه الكاحلة. هكذا تبدأ الرواية التي تتقسم إلى ثلاثة وعشرين مقطعاً، بأسلوب بسيطٍ غير متكلّفٍ، يتقلّب بين السرد الكلامي والمعالجة الصحافية حتى تكاد تشعر كأنّك تجالس زياد كاج في مقهى عتيق وتسمعه بتمعّن.
تخضع الرواية لزمنين مختلفين: الحاضر الذي يمرّ فيه بطلها حيث يعاني من سطوة شعورين متناقضين، خوف من كتابة رواية تتطرق إلى موضوعٍ يصرّ كثيرون بنظره على أنها عملية نبش قبور، حفر عميق في الجراح، وشعوره بمسؤولية تدوين ما رأته عيناه من معاناة ووحشية كأنّها مهمةٍ أخرى أوكلت إليه بعد مرور كلّ ذلك الوقت. بين الاندفاع العاطفي/ الذاتي للغوص من جديد في كواليس الماضي من جهة وبين الخوف من انعدام جهوزية الظرف المناسب لكتابه والتيقّظ العقلاني لخطورة بَوحه الحقائق من جهة أخرى، تجد أمامك شخصاً مترنّحاً بين مزاجين مختلفين. إلّا أن تدفق سرده والمسار الذي خطا عليه، يبيّنان استسلامه لرغبته في دخول معترك إخبار ما حصل، فيحلّ ماضيه بكامل ثقله ويهيمن بأحداثه على الرواية.
وبينما يتغير طابع السرد انصياعاً للحركة الزمنية، إلّا أن الكاتب يفاجئك بأسماء الأشخاص الذين يذكرهم وتربطهم به صلة وصل، فتتأكّد من جديد أنك أمام ذاكرة منعَشة وحيّة تشكل وسيلة هذا العمل وغايته معاً. هو لم يتحفّز لكتابة روايته فقط لأن صديقه كابتن غسان زاره فجأة وأيقظ فيه مشاعر دفينة، نوستالجيا تتلاعب بين الحنين والألم، بل لأنّ مدخل مخيم صبرا وشاتيلا لم يعد كما يتذكره. لقد بات ساحة عامة لألبسة البالة وفضاء عامّاً كأيّ منطقة شعبية. بالنسبة إلى كاج، تجارب الإنسان هي ما يصنعه، ونحن أمام انتهاك مشين لمقبرةٍ طمرت ذواتاً مظلومة، بريئة ومغدورة وتحولت كمكان يقصده الروتين اليومي ويزوره المتبضعون.
تستمر في قراءة الرواية بحثاً عن حبكةٍ أو منعطف يأخذك إلى هاوية درامية لكنك لا تجد. ما تحصل عليه في الفصل الثاني عشر، يشكّل وحده ملحمةً طويلة شاجنة. بعد حصوله على قرص «دي.في.دي» من مكتبة الجامعة يحتوي على توثيق أتى على شكل مقابلات جرت مع مقاتلين اقتحموا مخيم صبرا وشاتيلا (فرق عسكرية تابعة للقوات اللبنانية وحلفائها بمساعدة إسرائيل)، يكشف لنا بطل الرواية ما أدلوا به من اعترافات وتصريحات. فَتك عنيف بالأجساد، لحّام يذبح الرقاب في سكين، أنين الأطفال، مقاتل يطلب مِمن ما زالوا على قيد الحياة الإقرار بذلك واعداً بالإفراج عنهم، لكنّه سرعان ما يغدر بهم ويقتلهم بأعصابٍ باردة. صراخ الصبايا، اغتصاب ثم مسدس في الرأس ثم إطلاق النار. قصص حقيقية حدثت، التجسيد الأبهى للسخط العارم. كان لبطل الرواية دور في لملمَة الجثث، في أن يعطي للموت حرمته، في أن يتعامل مع آثار تلك الغرائز المتوحشة الدامية لأشخاص أسماهم «دواعش ما قبل داعش».
شهادة حيّة يدليها أحد الناجين من فظاعة الموت


لم يفارق هذا الحدث بطل الرواية أبداً. بقي أسير تلك الليلة. الأثر النفسي القاتم الذي سبّبته له وظيفته وتجاربه في زمن الحرب، اجتاحت كيانه وتشبّثت في عقله وجثمت على ذاكرته، ولم يكن هناك أيّ مسعف سوى أن ينذر نفسه لكتابة رواية تكون بمثابة عملية انتقامية تردّ الصاع صاعين. إلّا أنه بعد التخبّط والتردّد في كتابة الرواية من عدمها، قرّر بطل زياد كاج الانكباب على هذا المشروع. لا تعود أسباب قراره إلى أنه أصغى إلى آراء رفيقه الكابتن غسان أو زميلته في العمل المصرّة على أن الزمن الراهن لن يستقبل بذراعين مفتوحتين كتاباً مماثلاً، بل لأنّه تنبّه إلى ما يخالج أصدقاءه المقرّبين من مشاعر. بعد مرور كل هذا الوقت، بات الماضي يثير فيهم شعوراً بالإخفاق والشجن. الخيبة من النتيجة، مأساة الواقع ومرارته حيث لا ذكرى سنوية أصلاً تُقام كرمى هذه الفاجعة. سقوط مخيم صبرا وشاتيلا على يد وحش قتل بالفأس وبلع أرواح الأبرياء، هزيمةٌ نكراء لكل معنيّ بالقضية الفلسطينية والإنسانية. لكن المحيط الضيق الذي اعتقد بطل كاج أنه ما زال ينعم بذلك الإرث قد تغيّر بالكامل. الكل مشغول بالتفاصيل اليومية، الجميع يحمدون القدر على نجاتهم ويريدون مواصلة العيش وعدم الاقتراب من الموت ولو كان ذكرى.
في كلماته الأخيرة في الرواية، يُفصح البطل عن استنتاجه الأخير: «أحداث مجزرة صبرا وشاتيلا تحتاج لصفحات وكلمات وعبارات غير متوفرة في القاموس اللغوي الذي تراكم عبر التاريخ البشري». هو فاقد للكلمات إذاً، عاجز عن التعبير، تعلّقه بفلسطين لا يجذره الكلام. لكن ما هو جدير بالذكر أنه تصالح مع حاضره، ولو بطريقةٍ رمزية، ففي صباح يوم أحد مشمس، كان هناك ماراثون يبدأ من بيروت ويسير جنوباً، فيه يتوجه الراكضون نحو أرض أجدادهم. إنه الحلم بالعودة الذي يقوى على كل تعبير.