المستفز والمغيظ في خطاب قادة ومثقفي منظومة الهيمنة الغربية المنحدرة هو الاجترار المكرور لمفاهيم من نوع «التضامن الإنساني» و«المصير المشترك». استخدامها من قِبلهم ينمّ عن قدر من الازدراء والاستهانة بذكاء القطاع الأعظم من سكان جنوب العالم، الذين يعرفون السجل الإجرامي الماضي والحاضر لهذه المنظومة بحقهم وبحق بلدانهم، ومسؤوليتها الطاغية، وزبانيتها المحليين، عن شقائهم الذي لم ينتهِ. غير أن الهلع والوجوم الباديَين على محيّا القادة المذكورين، عندما يطلبون من شعوبهم الاستعداد للأسوأ، لا يبعثان إلا على البهجة، وحتى الشماتة ممن ظنوا أن العالم طوِّب لهم. في زمن آخر، قال الرئيس ماو تسي تونغ إن الامبريالية نمر من ورق، وسخر كثيرون منه مؤكّدين أن «أنياب النمر نووية»، لكننا نشهد الآن كيف أن جرثومة مجهرية تزعزع الركيزة المالية الشديدة الهشاشة للرأسمالية في مرحلتها النيوليبرالية، لدرجة أن البعض يتوقع أن تكون بمثابة سلاح دمار شامل على المستوى الاقتصادي، لا تقوى على ردعه «الأنياب النووية». بعيدة هي اليوم حقبة «العولمة السعيدة»، عندما كان توماس فريدمان يرى العالم «مسطحاً» ويفخر بأن «اليد الخفية للسوق الرأسمالي لا تعمل دون القبضة الخفية للبنتاغون». تجربة ثلاثة عقود من الحروب والصراعات كشفت مدى تراخي هذه القبضة وعجزها عن فرض الخضوع لتراتبية على صعيد عالمي، داروينية في جوهرها، تحتل رأس الهرم فيها زمرة معولمة، يزداد احتكارها للثروة والسلطة على حساب من هم في وسطه، وخاصة من هم في أسفله. وبعد غرقه في «الوحل» الأفغاني و«المستنقع» العراقي، التفت البنتاغون، ومعه القيادة السياسية الأميركية، في لحظة وعي، إلى دخول منافسين جدد إلى الحلبة الدولية ـ روسيا والصين أساساً ـ «فاستدارا» لمواجهتهم، عبر إطلاق جولة جديدة من سباق التسلح، والحرب التجارية والاقتصادية، وعمليات زعزعة الاستقرار. وتضاعفت في الفترة نفسها عدوانيتهما ضد دول الجنوب المستقلة كإيران وفنزويلا وبوليفيا. في هذا السياق الدولي الذي تتصاعد فيه التوترات والصراعات بين القوى الكبرى والمتوسطة، انتشر فيروس كورونا في الصين قبل أن يتحول إلى جائحة عالمية. في مرحلة أولى، ظنت الإدارة الأميركية أن بإمكانها توظيف وباء يبقى محصوراً في الصين وإيران ضدهما. وقد عكست تسمية كورونا بـ«الفيروس الصيني» هذا الاعتقاد الأخرق. لجأت القوى الاستعمارية عبر التاريخ إلى توظيف وحتى نشر الأوبئة لإبادة السكان الأصليين في المستعمرات، كما حصل في الولايات المتحدة، أو لكسر إرادة المقاومة لديهم وإخضاعهم، كما فعلت بريطانيا في الهند. صرح ترامب قبل أسابيع أنه لا يرى سبباً وجيهاً لوقف تشدده في الميدان التجاري ضد الصين، وقرر عقوبات جديدة على إيران في الوقت الذي يحاول فيه البَلدان التصدي لتفشي الوباء. توازت هذه المواقف مع حملة مسعورة على الصين ورئيسها، واعتبار ما جرى أنه «تشيرنوبيلها» وأن أقل ما يترتب عليها هو إقالته. كنا في مرحلة السعي إلى توظيف الفيروس ضد جميع الخصوم، بمن فيهم «الوازنون». المرحلة الثانية هي تلك التي تلي صيرورة الوباء جائحة والتي كشفت مدى تداعي البنى التحتية الخدماتية العامة، خاصة الطبية، في الرأسماليات البرلمانية «المتطورة»، بعد 4 عقود من السياسات النيوليبرالية. والأنكى من ذلك، بالنسبة إلى نخبها الحاكمة التي باتت فاقدة لماء الوجه، هو التداعيات المالية والاقتصادية المهولة التي ستنجم عنها. الأوضاع ما بعد الجائحة، ستكون أصعب بما لا يُقاس مما هي عليه حالياً. هذا ما يفسر الاعتدال المفاجئ في مواقف الرئيس الأرعن حيال الصين وإجهاره بالرغبة بالتعاون معها. المطلوب على الأقل راهناً هو تجميد التناقض معها، ولو مؤقتاً، للتفرغ للتداعيات المشار إليها. غير أن أصواتاً أكثر صدقية في وسط عابر للانقسامات السياسية من النخب الأميركية كصوت جوزيف ناي، تدعو إلى العودة إلى منطق الشراكة مع القوى الدولية الأخرى في إدارة شؤون العالم. جوزيف ناي هو أبرز منظري «الريادة الأميركية» منذ عقود، وهو الذي بلور مفاهيم مثل «القوة الناعمة» و«القوة الصلبة»، والذي حدد المعايير المستخدمة لتصنيف دولة ما قوة دولية أو إقليمية أو صغرى. وهو قد اعتبر في مقال أخير له على موقع «وور أونذي روكس» ذي عنوان لافت، «درس كوفيد-19 المؤلم حول الاستراتيجية والقوة»، أن استراتيجية التنافس بين القوى العظمى المعتمَدة من قبل الإدارة منذ أواخر 2017 لم تعد ملائمة في الظروف الدولية الجديدة، وأن «التعاون الوثيق مع الحلفاء والخصوم أساسي للحفاظ على الأمن الأميركي». وفي العدد الأخير من «فورين أفيرز»، المكرّس للنقاش الدائر حول ضرورة تغيير واشنطن لسياستها الخارجية، أكد غراهام أليسون، مؤلف كتاب «فخ توسيديد» (عن احتمال الحرب بين الصين وأميركا)، الذي لقي رواجاً واسعاً بين الخبراء والباحثين، أن المطلوب هو تقاسم النفوذ على مستوى الكوكب بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الصاعدة. تداعيات ومفاعيل الجائحة ستعزز الآراء داخل وخارج الإدارة الداعية للتوصل إلى تسوية مع أطراف كالصين، غير أن واشنطن ستمضي بحربها ضد دول الجنوب المستقلة كإيران وفنزويلا وتكثّف الضغوط عليها مستغلّة الجائحة. من جهة أخرى، فإن تعاظم الفوارق الاجتماعية الذي كشفته الجائحة، سيحيي الدعوات إلى «أنسنة» الرأسمالية عبر عقد اجتماعي جديد أو «نيو ديل 2» وكذلك إلى التحوط ضد استغلال الدولة لتضخم قدراتها على المراقبة والتحكم للتحول إلى قوة شمولية، كما يشير الكاتب الصهيوني يوفال هراري، النجم الأيديولوجي الصاعد لجناح «إصلاحي» من أنصار العولمة وأصحاب المليارات، كبيل غيتس ومارك زوكربيرغ. قد نشهد تسويات مؤقتة بين الولايات المتحدة وخصومها الوازنين وكذلك ضغوطاً متزايدة من أجل إصلاحات اقتصادية واجتماعية داخلية في الغرب. ولكن ماذا عنا؟
لن نرى ولادة عقد اجتماعي عالمي ولا أنسنة للإمبريالية. الأخيرة قدمت في الماضي تنازلات لطبقاتها الشعبية في بلدانها لشراء السلم الاجتماعي والاستمرار بالنهب والاستغلال في جنوب العالم. قد تعاود الكرّة اليوم. لا فائدة من الاستمتاع بالخطاب الإنسانوي المغفل الذي يروّج له حالياً. أمام كوكب المنكوبين، أي جنوب العالم الذي اعاد الاستعمار الغربي بعنفه العاري صياغته واستتباعه، والذي تعتبر صناعات الدواء الغربية شعوبه فئران مختبرات، ظروف سانحة لمحاولة تحويل التهديد الى فرصة عبر تعزيز التعاون بين بلدانه، وبعضها ككوبا يلعب دوراً طليعياً في مكافحة الجائحة، ولتطوير علاقاته مع الصين وروسيا وغيرهما من القوى غير الغربية الصاعدة التي تسهم بدورها في مواجهتها، والافادة من الضعف الذي سينجم عن آثار الجائحة على دول الغرب، المرشحة للتعاظم على المدى القصير والمتوسط، لتصعيد النضال ضد هيمنتها المباشرة وغير المباشرة والخلاص من السبب الأصلي لنكبته.