تواجه البشريّة، راهناً، أزمةً عالميّة. ربّما هي الأكبر التي يواجهها جيلنا. ويُحتمل أن تُشكِّل قرارات الناس والحكومات، العالم لسنواتٍ قادمة. قراراتٌ لن تُعيد تشكيل أنظمتنا الصحية فحسب، ولكنّها ستنسحب أيضاً على اقتصادنا وسياستنا وثقافتنا. علينا التصرُّف بشكلٍ سريع وحاسم، كما علينا أن نأخذ في الاعتبار العواقب طويلة الأمَد لأعمالنا. لدى اختيارنا بين البدائل، علينا ألّا نسأل أنفسنا عن كيفية التغلُّب على التهديد المباشر فحسب، لكن أيّ عالمٍ سنسكنُ متى مرّت العاصفة. ستمرُّ العاصفة، وستنجو البشرية، وأكثرنا سيبقى على قيد الحياة، لكنّنا سنعيش في عالم مختلف. العديد من تدابير الطوارئ الحالية ستصبح مِن العناصر الثابتة في الحياة. هذه طبيعة حالات الطوارئ. إنها تسرّع التحوّلات التاريخية. القرارت التي يمكن أن تستغرق، في الأوقات العادية، سنوات مِن المداولات، يجري تمريرها في غضون ساعات.
اندريه توران ــ روسيا

ويتمّ الدفع بالتقنيات غير الناضجة، وحتى الخطيرة منها، إلى الخدمة، ذلك أن مخاطر التلكّؤ تُعدُّ أكبر. ماذا يحدث حين يعمل الجميع مِن المنزل ويتواصل عن بُعد؟ ماذا يحدث حين تتحوّل المدارس والجامعات إلى التعليم عن بعد؟ في الأوقات العادية، سترفض الحكومات والشركات والمجالس التعليمية تطبيق تجارب من هذا النوع. لكن يصدف أننا في أوقات غير عادية.
في وقت الأزمة هذا، نواجه خيارَين مهمين؛ يقع الأول بين المراقبة الشمولية وتمكين المواطنين، أما الثاني فيأتي بين العزلة القومية والتضامن العالمي.

المراقبة من تحت الجِلد
مِن أجل وقف الوباء، يصبح جميع السكان أمام خيار الامتثال لمبادئ توجيهية محدّدة. هناك طريقتان لتحقيق ذلك؛ إحداها تتّصل بمراقبة الحكومة للناس، ومعاقبة مَن يخالف القواعد. اليوم، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، تتيح التكنولوجيا مراقبة الجميع طوال الوقت، إذ يمكن للحكومات، الآن، أن تعتمد أجهزة استشعار وخوارزميات قوية، بدلاً مِن أشباح مِن لحم ودم.
في معركتها ضدّ كورونا، استخدمت حكومات عدّة أدوات مراقبة جديدة. الحالة الأبرز في هذا السياق، كانت الصين. مِن خلال مراقبة الهواتف، وإلزام الأشخاص بفحص درجة حرارتهم ومراقبة حالتهم الطبية والإبلاغ عنها، تستطيع السلطات الصينية بالإضافة إلى تحديد هوية حاملي الفيروس، تتّبع تحرّكاتهم أيضاً، وصولاً إلى معرفة الأشخاص الذين تواصلوا معهم. هذه التكنولوجيا لا تقتصر على شرق آسيا. أذِنَ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أخيراً، لوكالة الأمن الإسرائيلية بنشر تكنولوجيا المراقبة المخصّصة عادةً لملاحقة الإرهابيين، لتعقُّب مرضى الفيروس. وبعدما رفضت اللجنة الفرعية البرلمانية المعنيّة الموافقة على هذا الإجراء، فعّل «مرسوم الطوارئ».
ستُجادِلُ بأن لا جديد في كل ذلك. في السنوات الأخيرة، استخدَمت الحكومات والشركات تقنيات أكثر تطوراً لتتبُّع الناس ومراقبتهم. وإذا لم نكن حذرين، فقد يمثّل الوباء خطاً فاصلاً في تاريخ المراقبة؛ والسبب يتعدّى تطبيع الدول مع نشر أدوات المراقبة الجماعية، إلى التدليل على الانتقال الجذري من المراقبة «فوق الجلد» إلى «تحت الجلد». لغاية الآن، حين يلمس اصبعك شاشة هاتفك وتنقر على رابط، فإن الحكومة تريد أن تعرف الرابط الذي نقرت عليه. غير أن فيروس كورونا، حوّل الاهتمام؛ إذ باتت الحكومة تريد معرفة درجة حرارة اصبعك، وضغط الدم تحت جلدك.
إحدى المشاكل التي نواجهها لدى استنباط موقفنا مِن المراقبة، هي أن أحداً منّا لا يعرف، بالضبط، كيف تتم مراقبته... تتطوّر تكنولوجيا التجسُّس بسرعة فائقة، وما بدا أنه خيال علميّ قبل عشر سنوات، لم يعد كذلك اليوم. كتجربةٍ فكريّة، تخيّل حكومة افتراضية تطالب بأن يرتدي كل مواطن سواراً بيومترياً يراقب درجة حرارة جسمه ومعدل ضربات قلبه على مدار اليوم. تُجمع البيانات الناتجة مِن هذه العملية، وتُحلّل بواسطة خوارزميات حكومية. خوارزمياتٌ ستعرف أنك مريض حتى قبل أن تعرف أنتَ، وستعرف أيضاً أين كنت ومَن قابلت. بهذا، يمكن تقصير سلاسل العدوى بشكلٍ كبير، وحتى قطعها تماماً.
ستمرُّ هذه العاصفة. لكن الخيارات التي نمضي بها الآن، مِن شأنها أن تغيّر حياتنا لسنواتٍ قادمة


الجانب السلبي، بالطبع، أن ذلك سيمنح شرعيةً لنظام مراقبة جديد مرعب. إذا كنت تعلم، مثلاً، أنّني نقرت على رابط «فوكس نيوز» بدلاً مِن «سي إن إن»، يمكن هذا أن يعطيك انطباعاً عن أهوائي السياسية، وربّما شخصيتي. ولكن إذا تمكّنت مِن مراقبة كيف تتغيّر درجة حرارتي وضغط دمي ومعدل ضربات قلبي أثناء مشاهدتي مقطع فيديو، ستعرف حينها ما يضحكني، وما يبكيني، وما يغضبني.
إذا بدأت الشركات والحكومات في جمع بياناتنا البيومترية بشكلٍ جماعي، فيمكنها التعرف إلينا بشكل أفضل بكثير ممّا نعرف أنفسنا، والتنبؤ بمشاعرنا، وأيضاً التلاعب بها وبيعنا أيّ شيء تريده، سواء كان ذلك مُنتَجاً أو سياسياً.
يمكنك، طبعاً، أن تجعل قضية المراقبة البيومترية بمثابة إجراء موقّت يتمّ اتخاذه أثناء حالة الطوارئ، سيزول حالما تنتهي. لكن التدابير الموقّتة لها عادة سيئة في تجاوز وقتها. وحتى عندما تنخفض معدلات الإصابة بفيروس كورونا إلى الصفر، يمكن بعض الحكومات المتعطّشة للبيانات أن تجادل بأنها في حاجة إلى الإبقاء على أنظمة المراقبة البيومترية، لأنها تخشى حدوث موجة ثانية من العدوى، أو لأن هناك سلالة جديدة مِن فيروس إيبولا تتطوّر في وسط أفريقيا، أو... هناك معركة كبيرة تدور رحاها، في السنوات الأخيرة، حول خصوصيتنا. قد تُشكِّل أزمة الفيروس نقطة التحوُّل في المعركة. فعندما يُتاح للأشخاص الاختيار بين الخصوصية والصحة، فإنهم عادةً ما يختارون الصحة.
تخيير الناس بين الخصوصية والصحة يعتبر، في الواقع، أصلَ المشكلة. في الأسابيع الأخيرة، نسّقت كلٌّ مِن كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة بعض أنجع الجهود المبذولة لاحتواء الوباء. في حين أن هذه البلدان استخدمت بعض تطبيقات التتبُّع، فقد اعتمدت بشكل أكبر على اختبارات مكثّفة، وعلى تقارير صادقة، وعلى رغبة تعاون الجمهور المستنير.
المراقبة المركزية ليست الطريقة الوحيدة لامتثال الناس. عندما يُصارَح هؤلاء بالحقائق العلمية، سيفعلون ما هو صائب، حتى من دون أن يراقبهم الأخ الأكبر. تخيّل، مثلاً، غسل يديك بالصابون. كان هذا أحد أعظم التطورات في نظافة الإنسان. ينقذ هذا الإجراء البسيط ملايين الأرواح كل عام. وبينما نعتبره أمراً مسلَّماً به، اكتشف العلماء أهمية غسل اليدين بالصابون في القرن التاسع عشر. في السابق، كان الأطباء والممرضون يتنقلون مِن عمليّة جراحية إلى أخرى من دون غسل أيديهم. اليوم، يغسل مليارات الأشخاص أيديهم يومياً، ليس لأنهم يخشون شرطة الصابون، ولكن لأنّهم يفهمون الحقائق. ولكن لتحقيق مثل هذا المستوى من الامتثال والتعاون، فأنت بحاجة إلى الثقة. يحتاج الناس إلى الثقة بالعلم، وبالسلطات العامة، وبوسائل الإعلام. على مدى السنوات القليلة الماضية، قوّض السياسيون غير المسؤولين عمداً هذه الثقة، والآن قد يميلون إلى السير في الطريق السريع نحو الاستبداد، بحجة أنه لا يمكنك الوثوق في الجمهور لفعل ما هو صحيح. عادةً، فإنّ الثقة التي تآكلت على مرّ السنوات، لا يمكن إعادة بنائها بين عشية وضحاها. ولكن هذه ليست أوقاتاً عادية. بدلاً من بناء نظام مراقبة، لم يفُت الأوان بعد لإعادة بناء ثقة الناس في العلوم والسلطات ووسائل الإعلام.
الوباء هو اختبارٌ رئيس للمواطَنة. في الأيام المقبلة، يجب على كل واحد منّا أن يثق في البيانات العلمية وخبراء الرعاية الصحية، بدلاً من نظريات المؤامرة التي لا أساس لها. وإذا فشلنا في اتخاذ القرار الصائب، سنصبح أمام خسارة أغلى حرياتنا، اعتقاداً منّا بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لحماية صحتنا.

نحو خطة عالمية
الخيار الثاني المهم الذي نواجهه، يقع بين العزلة القومية والتضامن العالمي. وكلٌّ مِن الوباء نفسه والأزمة الاقتصادية الناتجة منه مشكلتان عالميتان، لا يمكن حلّهما إلا مِن خلال التعاون العالمي. لهزيمة الفيروس، نحتاج إلى مشاركة المعلومات على نطاق عالمي. هذه هي ميزة البشر على الفيروسات. على الدول أن تكون مستعدّة لتبادل المعلومات بلا قيود، كما عليها أن تتواضع للحصول على المشورة... نحتاج أيضاً إلى جهدٍ عالميّ لإنتاج وتوزيع المعدات الطبية، وخصوصاً مجموعات الفحص وأجهزة التنفُّس. فبدلاً من محاولة كل دولة القيام بذلك محليّاً، يمكن لجهدٍ عالميّ منسّق أن يسرّع الإنتاج، ويضمن توزيع المعدات بعدالة. وكما تقوم الدول بتأميم الصناعات الرئيسة أثناء الحرب، فقد تتطلّب منّا الحرب الإنسانية ضدّ الفيروس «إضفاء طابع إنساني» على خطوط الإنتاج. على الدول الغنية التي لديها عدد قليل من حالات الإصابة، أن تكون مستعدة لإرسال معدات ثمينة إلى الدول الأفقر، وأن تثق بأنها حين تحتاج إلى المساعدة لاحقاً، فإن دولاً أخرى ستأتي لمساعدتها. قد نفكّر في جهد عالمي مماثل لجمع العاملين في المجال الطبي؛ يمكّن البلدان الأقل تأثراً، أن ترسل طاقماً طبياً إلى المناطق الأكثر تضرراً في العالم، من أجل مساعدتها في وقت الحاجة، واكتساب الخبرة في الوقت ذاته.
هناك حاجة حيوية للتعاون العالمي على المستوى الاقتصادي، بالنظر إلى الطبيعة العالمية للاقتصاد وسلاسل التوريد. نحن في حاجة إلى خطة عمل عالمية، ونحتاج إليها بسرعة. شرطٌ آخر هو التوصل إلى اتفاق عالمي بشأن السفر. تعليقُ جميع الرحلات الدولية لأشهر، سيتسبّب في صعوبات هائلة، وسيعرقل الحرب ضدّ الفيروس. تحتاج الدول إلى التعاون من أجل السماح لعدد قليل من المسافرين في مواصلة عبور الحدود: العلماء والأطباء والصحافيين والسياسيين ورجال الأعمال. يمكن القيام بذلك من خلال التوصل إلى اتفاق عالمي بشأن الفحص المسبق للمسافرين مِن قِبَل بلدانهم.
لسوء الحظ، البلدان الحالية بالكاد تفعل أياً من هذا. أصاب الشلل الجماعي المجتمع الدولي. كان المرء يتوقع اجتماعاً طارئاً للقادة العالميين للتوصل إلى خطة عمل مشتركة. تمكّن قادة مجموعة السبع من تنظيم مؤتمر عبر الفيديو، لم يُسفر عن أي خطة.
في الأزمات العالمية السابقة - مثل الأزمة المالية لعام 2008 ووباء إيبولا 2014 - تولّت الولايات المتحدة القيادة. لكن الإدارة الأميركية الحالية، تخلّت عن هذا المنصب، وأوضحت أنها تهتم بعظمة أميركا أكثر من اهتمامها بمستقبل البشرية. تخلَّت حتى عن أقرب حلفائها. وعندما حظرت رحلات السفر مِن أوروبا، لم تكلِّف نفسها عناء إخطار الاتحاد مُسبقاً. لم تكتفِ بذلك، بل عرضت مليار دولار على شركة أدوية ألمانية لاحتكار ملكية لقاحٍ جديد لـ«كوفيد-19».
إذا لم يتمّ ملء الفراغ الذي خلفته الولايات المتحدة مِن قِبَل دولٍ أخرى، فإن إيقاف الوباء لن يكون صعباً فحسب، بل إن إرثه سيستمر في تسميم العلاقات الدولية لسنوات قادمة. مع ذلك، فإن كل أزمة هي فرصة أيضاً. علينا أن نأمل في أن يساعد الوباء الحالي البشرية على إدراك الخطر الحادّ الذي يشكله الانقسام العالمي.

* مؤرّخ صهيوني ومروّج للأيديولوجيا الإنسانويّة الجديدة، تحوّل في الغرب إلى موضة فكرية، ومؤلفاته فتنت شخصيات مثل بيل غايتس، ومارك زوكربرغ، وباراك أوباما - المقالة منشورة في «فايننشال تايمز» (16 آذار/ مارس)