في اللحظة التي ينتشر فيها فيروس كورونا بسرعة فائقة ويحوّل مدناً بأسرها مثل ووهان الصينية إلى مدينة للأشباح، ويترصد زائري المقامات الدينية وطالبي التبرك والمغفرة في تعداد أنفاسهم وخفقات صدورهم، لم تغِب الأوبئة والأمراض المستشرية يوماً عن أدب الدين والدنيا، من التعاويذ الأشورية الأولى (بالماء قم بتعزيمة/ إيريدو/ احمل اليه مبخرة وشعلة/ بحيث أن شيطان الوباء القائم في جسد الإنسان/ كالماء يتسرّب خارجاً)، إلى سِفر التثنية حيث يتهدد يهوه شعبه المختار بـ «السلّ والحمّى والبرداء والالتهاب والجفاف واللفح والذبول، فتتّبعك حتى تفنيك،... وبقرحة مصر والبواسير والجرب والحِكّة حتى لا تستطيع الشفاء»، إن هو عصى أوامر الرب، مروراً بالتراجيديات الإغريقية والمخيال الإسلامي والعربي الذي وصف فيه نبي العرب الطاعون بـ «وخزة الجن»، وصولاً إلى الأعمال الحديثة العظيمة حول أدب «الوباء»، من «طاعون» كامو إلى «كوليرا» ماركيز، وفانتازيا ساراماغو المدهشة في تحويل العمى إلى وباء معدٍ. الإنفلونزا لم تأخذ بعد مكانها في الأدب مثل الطاعون والزهري والكوليرا والجدري، لكن عزيزي القارئ الذي يحتاج لقليل من العزلة في زمن الوباء، استمتع مع فنجان من اليانسون الساخن بما سنعرضه في «كلمات» من باقة للأدب في زمن «كورونا».
ارنست بينيون ارنست ـــ «وباء في نابولي» (صورة فوتوغرافية على ورق ـــ 1990)

أوديب مَلِكاً
(القرن الخامس قبل الميلاد ـــــ سوفوكليس)
في قلب الأساطير الإغريقية، سيتّخذ مفهوم الوباء بُعده الأسطوري والأدبي. في «أوديب ملكاً»، يجعل سوفوكليس من الطاعون الذي يهاجم مدينة طيبة نقطة الانطلاق التي يشرع منها أوديب في استكشاف قدره. في مواجهة الوباء الذي يتهدّد المدينة، ينتدب أوديب قريبه كريون إلى عرّافة الإعصار في معبد دلفي، لكن الجواب الذي أعطي باسم الإله يشير صراحة إلى وجوب طرد قاتل الملك لايوس، الأب البيولوجي لأوديب، من أجل إنقاذ المدينة. وفقاً لخطة الإله، يكتشف أوديب أنه هو نفسه قاتل أبيه. في أعمال سوفوكليس، لا يقتصر الطاعون على كونه الذريعة التي ستسمح لقدَر أوديب بأن يتحقّق، إنما هو استعارة للعنف واللعنة التي تنتشر في المدينة بطريقة معدية كعقابٍ يستوجب كفّارة عظيمة على قدْر الذنب.

مقطع من «أوديب ملكاً»
(ترجمة عبد الرحمن بدوي):
كريون: ها هو الجواب الذي أعطي باسم الله. إن المولى فوبوس يأمرنا أمراً صريحاً بأن نطهّر النجاسة التي في هذا البلد، وألا ندعها تنمو حتى تصير غير قابلة للعلاج.
أوديب: نعم، ولكن كيف نطهّر أنفسنا منها؟ وما طبيعة هذا الداء؟
كريون: بطرد الجناة، أو بإرغامهم على أن يدفعوا القتل بالقتل، لأن الدم الذي يتكلم عنه هو الذي يُحدث الاضطراب في مدينتنا.
أوديب: لكن أين هم؟ أنّى لنا أن نعثر اليوم على أثر مشكوك فيه لهذه الجريمة العتيقة؟
كريون: إن الإله يقول إنهم في مدينتنا هذه. وما يبحث عنه المرء يَجِدْه؛ وما يُهمله، يُفْلِت.

التراث العربي والإسلامي
(القرن السادس ـ القرن الثالث عشر- الجاحظ، ابن الرومي، الثعالبي، السيوطي)
في قلب التراث العربي والإسلامي، لن يلتزم المؤلّفون حصراً بالمسار الوعظي الداعي إلى استخلاص العبر من الأمراض والأوبئة التي رسمها القرآن في الآية التي تتناول البلاء المسلّط على آل فرعون: «فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ» (الأعراف، ١٣٣)، إنما سنلمس الكثير من الفانتازيا (يقول بورخيس بأن الأدب الديني هو مصدر عظيم للفانتازيا) في المرويات حول الأوبئة مثل الطاعون الذي وصفه الرسول العربي بأنه «وخزة تصيب أمتي من أعدائهم من الجنّ» كما في قصة حزقيل التي يوردها السيوطي في «الدر المنثور». وسنرى شاعراً فذّاً مثل ابن الرومي يجعل من الجدري مادة استيتيقية قبل «أزهار الشر» (وقد تم ربط العنوان بالمرض لما لكلمة mal من دلالة بالفرنسية) لبودلير بقرون. العقل التفكيكي العربي الأبرز، أبو عثمان الجاحظ المشايع للعباسيين لا يتورّع عن استخدام الطاعون للطعن سياسياً على بني أمية، وفي لفتة عبقرية أخرى، يربط الجاحظ بروح علمية موضوعية بين الأوبئة وتقلبات المناخ في تناوله لحمّى الأهواز.

منتخبات من التراث العربي والإسلامي في العلل والأمراض:
قصة حزقيل

(السيوطي، الدر المنثور)
كانت قرية يقال لها داوردان قريبة من واسط، فوقع فيها الطاعون، فأقامت طائفة وهربت طائفة، فوقع الموت فيمن أقام وسلِم الذين أجلوا، فلما ارتفع الطاعون رجعوا إليهم، فقال الذين بقوا: اخواننا كانوا أحزم منا لو صنعنا كما صنعوا سلمنا، ولئن بقينا إلى أن يقع الطاعون لنصنعن كما صنعوا. فوقع الطاعون من قابل فخرجوا جميعاً، الذين كانوا أجلوا والذين كانوا أقاموا وهم بضعة وثلاثون ألفاً، فساروا حتى أتوا وادياً فسيحاً فنزلوا فيه وهو بين جبلين، فبعث الله إليهم ملكين، ملكاً بأعلى الوادي وملكاً بأسفله، فناداهم: أن موتوا فماتوا. فمكثوا ما شاء الله، ثم مر بهم نبي يقال له حزقيل، فرأى تلك العظام فوقف متعجباً لكثرة ما يرى منهم، فأوحى الله إليه أن ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي، فاجتمعت العظام من أعلى الوادي وأدناه حتى التزق بعضها ببعض كل عظم من جسد التزق بجسده، فصارت أجساداً من عظام لا لحم ولا دم، ثم أوحى الله إليه أن ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فاكتست لحماً، ثم أوحى الله إليه أن ناد أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي فبعثوا أحياء. فرجعوا إلى بلادهم فأقاموا لا يلبسون ثوباً إلا كان عليهم كفناً دسماً، يعرفهم أهل ذلك الزمان أنهم قد ماتوا، ثم أقاموا حتى أتت عليهم آجالهم بعد ذلك.

ابن الرومي في وصف الجدري
(الديوان، ص ١٢٢):
عبثت به الحُمّى فورَّد جسمهُ/ وَعَكُ الحُمّى وتلهبُّ المحرورِ
وبدا به الجدري فهو كلؤلؤٍ/ فوقَ العقيق منضَّد مسطورِ
ونضاه بنثرهِ فجاء كعصفرٍ/ قد رُشَّ رشاً في بياض حريرِ
الآن صرت البدر إذ حاكى لنا/ كَلفَ البدور مواضع التجديرِ
فكخمرةٍ رُشَّت على تفاحةٍ/ أثرٌ يلوح بخدّك المجدورِ
فكأنه ورق المصاحفِ زانهُ /نقط وشَكْلٌ في خلالِ عُشورِ

الثعالبي في وصف الحمّى ومرض الطحال
(ثمار القلوب في المضاف والمنسوب):
حمى الأهواز: قال الجاحظ: قصبة الأهواز مخصوصة بالحمّى الدائمة اللازمة؛ قتّالة الغرباء، على أن حُمّاها ليست إلى الغريب بأقرب منها إلى القريب... ولو كان في العالم ما هو شرٌّ من الأفعى والجرّارات لما قصرت قصبة الأهواز عن توليده وتلقيحه. وبليّتها أن من ورائها سباخاً، ومناقع مياه غليظة، وفيها أنهار تشقّها مسايل كُنفهم، ومياه أنهارهم ومتوضآتهم، فإذا طلعت الشمس فطال مقامها وطالت مقابلتها لذلك الجبل قبل الصخرة التي هي في الجرارات، فإذا امتلأت يبساً وحرارة، وعادت جمرة واحدة، قذفت ما قبِلت من ذلك عليهم، وقد تحدث تلك السباخ وتلك الأنهار هواءً فاسداً يفسد كلَّ شيء يشتمل عليه ذلك الهواء.

طحال البحرين:
في خصائص البلدان عن ثقات التجّار الذين نقّبوا في البلاد: من أقام في البحرين مدّة رَبَا طِحاله، وانتفخ بطنه قال الشاعر:
«ومن يسكن البحرين يعظُم طحالهُ/ ويُغبَط بما في بطنه وهو جائعُ».

الجاحظ في الطعن بالطاعون على بني أمية
(الحيوان ١١٩/٦):
وقد كانت الطواعين تقع كثيراً فتصير تواريخ، كطاعون عمواس، وطاعون العذارى، وطاعون الأشراف وغيرها. ولما ملك بنو العباس رفع الله ببركتهم الطاعون والموتان الجارف عن بني آدم، فإنها كانت تحصد فيهم حصداً، وفي ذلك يقول العماني للرشيد:
قد أذهب الله رماحَ الجِنِّ/ وأذهبَ التعليق والتجنّي
يريد أن ما كان بنو مروان يفعلونه في مطالبة الناس بالأموال، وتعذيب عمّال الخراج بالتعليق والتجريد، قد ذهب.

الحيوانات المصابة بالطاعون
(القرن السابع عشر-جان دو لافونتين)
بعد قرون، يستعيد جان دو لافونتين الطاعون في إحدى حكاياه حول الحيوانات. يشير لافونتين إلى نهر البرزخ، وهو نهرٌ على حدود مملكة الموتى يتعذّر عبوره من دون دفع ثمن ما، ليتم ذكر الطاعون بالاسم في السطر الرابع، وبجملة مقتضبة «الطاعون (بما أنه يجب تسمية الأشياء بأسمائها)/ داءٌ اخترعته السماء في غضبها/ لعقاب جرائم الأرض». من أجل إنقاذ شعبه، يقترح الأسد التضحية بالمُذنب الأكبر من بين الحيوانات. إنه الحمار، الذي ستتم إدانته أخيراً بسبب استقامته الزائدة. يرمز الوباء في قصيدة لافونتين إلى الفساد في السياسة والحكم والإدارة وما يرتبط بها من الكذب والتزلف والنفاق: «موضعك من القوة أو الضعف/ سيجعل أحكام المحكمة بيضاء أو سوداء».

«المسرح والطاعون»
(١٩٣٨، انتونان ارتو)
في هذا النص المنشور في «المسرح ونقيضه»، يجعل انتونان ارتو من الطاعون طاقة إيجابية. يتحول الوباء إلى نوع من الخلاص، حين يتسبب لدى المريض بانهيار كل مرتكزاته المرجعية. القديس اغسطينوس هو أيضاً يقارن المسرح بالطاعون، معتبراً الأخير يفتك بالجسم بينما يفتك الأول بالأعراف. يقول أرتو: «إذا كان المسرح الأساسي أشبه بالطاعون، فالأمر لا يتعلق بكونه معدياً، بل لأنه مثل الطاعون هو نوع من التجلّي، من التظهير، من الدفع إلى الخارج لخلفية من القسوة المستترة تتموضع بواسطتها فوق إنسان أو شعب معين كل الاحتمالات الشريرة للذهن. مثل الطاعون، وُجِد المسرح للإفراغ الجماعي للدّمل. إنه دعوة للروح لهذيان يستثير كل طاقاتها. إن فعل المسرح هو كفعل المرض تماماً في آثاره المفيدة، حين يدفع البشر إلى رؤية حقيقتهم كما هي، وحين يُسقط الأقنعة فإنّه يكشف الكذب، والوهن والدناءة والمكابرة. إن فِعل المسرح الحق يلوي الجمود الخانق للمادة الذي يهيمن على المعطيات الأكثر وضوحاً للحواس، وحين يظهّر للأفعال الجماعية قوتها القاتمة وقدرتها المخفية، فإنه يدعوها لأن تأخذ مقابل القدر موقفاً بطولياً ومتعالياً لم تكن لتظهره لولا هذا الفعل».

«الطاعون»
(١٩٤٧، البير كامو)
في هذا العمل العظيم، يجعل كامو من الوباء الذي يحوم فوق مدينة وهران آليغوريا للحرب. النص الذي نُشر مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية يردّد دونما شك أهوالها لا سيما المرتبطة بمعسكرات الإبادة النازية: في وصف المدافن الجماعية، والجثث المنقولة إلى المقابر بواسطة عربات الترامواي المنحرفة عن مسارها، وتحوّل البشر إلى أرقام، فإن مناخ معسكرات الإبادة يحضر بقوة. يسائل النص ردة الفعل الإنسانية أمام حضور الشر، مذكِّراً أن الأوبئة مثل الحروب، توقظ الغرائز الأكثر بدائية في الإنسان. في هذه الرواية، يستبسل البعض في قتال الوباء ومساعدة المرضى، بينما ينسحب البعض الآخر، أو ينهمك فريق ثالث في استغلال الفوضى والبلبلة المنبثقة من حضور الوباء.
حتّى بعدما اعترف الدكتور ريو أمام صديقه بأن حفنة من المرضى المتفرّقين قد ماتوا بالطاعون، من غير إنذار، فإن الخطر في رأيه ظلَّ غير حقيقي. إذا كان المرءُ طبيباً، كوَّن بكل بساطة رأياً عن الألم، وكان أوسع خيالاً من سواه. وإذ نظر الطبيب من النافذة إلى بلدته التي لم تتغير، شعر بتقزز خفيف إزاء المستقبل الذي يسمونه قلقاً. وكان يحاول أن يجمع في فكره ما يعرفه عن هذا المرض، وكانت هناك أرقام تطفو في ذاكرته، فيقول لنفسه أن الطواعين الثلاثة التي عرفها التاريخ قد كبّدت البشرية زهاء مئة مليون نسمة. لكن ما مئة ومليون نسمة؟ إن من يشترك في الحرب لا يكاد يعرف ما عسى يعنيه رَجلٌ ميت. ولمّا لم يكن للرَجل الميت أي وزن إلا حين يُرى ميتاً، فإنّ مئة مليون جثة منتشرة عبر التاريخ ليست إلّا دخاناً في المخيلة. وكان الدكتور يتذكر طاعون القسطنطينية الذي ذهب ضحيته في يوم واحد، على ما يقول بروكوب، عشرة آلاف شخص. وعشرة آلاف ميت تؤلف خمسة أضعاف عدد الحضور في دار كبيرة للسينما. إن ما ينبغي عمله هو هذا: يُحشد الناس عند مخارج خمس دور للسينما، ويقادون إلى ساحة في المدينة، فيُعمَد إلى إماتتهم بالجملة، وإذ ذاك يتضح الأمر بعض الشيء. سيكون بالإمكان على الأقل وضع وجوه معروفة على هذا الركام المغفل. على أنّ ذلك مستحيل التحقيق طبعاً، ثم من ذا الذي يعرف عشرة آلاف وجه؟ (ترجمة سهيل إدريس).

«الحب في زمن الكوليرا»
(١٩٨٥، غبرييل غارسيا ماركيز)
الأوبئة المعدية ثيمة أثيرة في المنجز الأدبي لساحر ماكوندو. «لطالما أحببتُ الأوبئة»، هذا ما صرّح به ماركيز في مقابلة لجريدة «لوموند» الفرنسية عام ١٩٩٥، مستذكراً الطاعون في «في ساعة نحس» (١٩٦١)، و«وباء النسيان» في «مائة عام من العزلة» (١٩٦٧)، والكوليرا في «الحب في زمن الكوليرا» (١٩٨٥). رغم أن الوباء ليس الثيمة المركزية في العمل المذكور الذي يروي قصة حب في مدينة استوائية، إلا أن الكوليرا تشكل نسيجاً داخلياً للرواية التي تحولت إلى فيلم سينمائي، نسيج يرسم الحائك الماهر عليه فضاءً من الاستعارات. يغرم فلورنتينو أريثا بالفاتنة فرمينا داثا في حقبة مليئة بالندوب ومصاعب الحب، إلا أن القدر سيجعل من فرمينا زوجة لأوربينو جوفينال، الطبيب الذي يقاتل الكوليرا. الحب الذي يكنّه فلورنتينو لفرمينا «يزداد كثافة كلما اقتربنا من الموت» حتى يهزِم المريض كما تفعل الكوليرا. مثل الفيروس، يغزو شبق الحب جسده دون قدرة على التملص منه. عند ماركيز كما عند أرتو، الوباء قيمة إيجابية تسمح للعواطف الخارقة بأن تتطور. إن كان ماركيز يستحضر الخوف أو الحذر تجاه الآخر كعوامل محتملة لنقل المرض، فلإظهار أن وردة الحب يمكن أن تنبت بكل جلالها من تُربة قاتمة. نستذكر المقطع الأخير للسفينة المحاصرة بين شاطئين تعمّهما الكوليرا، سفينة تحمل العاشق فلورنتينو وحبيبته التي ظفر بها أخيراً:
والنتيجة التي وصل إليها «القبطان» بعد سلسلة من الشتائم، هي أنه لا يجد سبيلاً للخروج من ورطة راية الكوليرا التي أدخلوا أنفسهم فيها. استمع إليه فلورنتينو اريثا من دون أن يطرف له رمش. ثم نظر عبر النافذة إلى دائرة أجهزة الملاحة، وإلى الأفق الرائق، وإلى سماء كانون الأول التي لا تشوبها غيمة، وإلى المياه المواتية للإبحار إلى الأبد وقال:
فلنتابع قدماً، قدماً، قدماً، ونرجع إلى لادوردا ثانية. ارتعشت فيرمينا داثا، لأنّها تعرّفت إلى الصوت القديم المضاء بنعمة الروح القدُس؛ ونظرت إلى القبطان: كان هو القدر. لكن القبطان لم يرها، لأنه كان غارقاً في قدرة فلورنتينو أريثا الرهيبة على الإلهام. وسأله:
- أتقول هذا جادّاً؟
فقال فلورنتينو اريثا:
- منذ ولدت لم أقل كلمة واحدة غير جدّية.
- نظر القبطان الى فيرمينا داثا ورأى في رموشها البريق الأول لصقيع شتوي. ثم نظر إلى فلورنتينو اريثا، بتماسكه الذي لا يقهر، وحبّه الراسخ، وأرعبه ارتيابه المتأخر بأن الحياة، أكثر من الموت، هي التي بلا حدود. سأل:
- إلى متى تظن بأننا نستطيع الاستمرار في هذا الذهاب والإياب الملعون؟
كان الجواب جاهزاً لدى فلورنتينو اريثا منذ ثلاث وخمسين سنة وستة شهور وأحد عشر يوماً بلياليها. فقال:
- مدى الحياة. (ترجمة صالح علماني)

«العمى»
(١٩٩٥، خوسيه ساراماغو)
في نوع من الفانتازيا الجامحة، يتحول العمى في رواية ساراماغو إلى وباء معدٍ، واللحظة التي يضرب فيها الوباء عيون كل الأشخاص هي بمثابة الحجر الذي يسقط في البحيرة لتتمركز حوله كل دوائر الحبكة من بعدها. على منوال كافكا الذي يتحول غريغور سامسا في روايته «المسخ» إلى صرصار، نشهد في «العمى» تحول مجتمع بأكمله إلى عميان، ليركز ساراماغو على خلية مجهرية في هذا المجتمع، مؤلفة من الطبيب الأعمى وزوجته المبصرة الوحيدة التي تمثل التضامن الإنساني واستثناء الرؤية-الأمل في الرواية، وسط العمى الجماعي الذي ببراعة يرشدنا ساراماغو إلى أنه يقود إلى التوحش والغرق والقذارة والتلوث والعفن والتفسخ والموت:
«كل الصور في الكنيسة قد غطّيت أعينها أيضاً بلصاقات بيض، وعُصبت أعين التماثيل بقماشة بيضاء ربطت حول رؤوسها، أما الرسومات فقد طُليت أعين من فيها بطلاء أبيض [...] إني أتخيل ذلك الشخص يدخل إلى هنا من عالَم العميان، ذلك العالم الذي إذا ما عاد إليه فسوف يعمى. أتخيل الأبواب المغلقة، الكنيسة المقفرة، الصمت. أتخيل التماثيل، الرسومات، إني أراه ينتقل من واحدة إلى الأخرى، يصعد المذابح، يربط العصابة البيضاء ويعقدها عقدتين كي لا تنفك أو تنزلق، يضع فوق أعين الرسومات طبقتين من الطلاء الأبيض كي يجعل الليل الأبيض الذي يغرقون فيه كثيفاً، لا بدّ أن ذلك القسّ قد ارتكب أسوأ تدنيس للمقدّسات في كل العصور والأديان، إنه الإنسان الأكثر عدلاً وتطرفاً، يدخل إلى هنا ليعلن أن الله الكلّي القدرة ليس جديراً بأن يرى. لم يُتح لزوجة الطبيب أن ترد، فقد سبقها إلى الكلام شخص ما بجانبها. ما هذا الكلام الذي أسمع، من أنتِ؟ عمياء مثلك قالت. لكني سمعتك تقولين إنك تستطيعين أن تري. هذه مجرّد طريقة في الكلام من الصعب التخلي عنها، كم مرّة سأردد هذا القول؟ وما هذا الكلام عن عصابات فوق أعين الصور. هذه هي الحقيقة. وكيف عرفتِ ذلك ما دمتِ عمياء. ستعرفه أنت أيضاً إذا ما فعلت كما فعلتُ أنا، فاذهب إليها والمسها بيديك. فاليدان هما عينا الأعمى. ولماذا فعلت ذلك. لأني أعتقد أنه كي نصل إلى ما وصلنا إليه فلا بدّ من وجود شخص ما آخر أعمى. وتلك القصة عن قسّ الأبرشية الذي عصَبَ أعين الصور، إني أعرفه جيداً، فهو لن يقوى على فعل شيء كهذا. أقول لك مقَدماً أنتَ لا تعرف ما يستطيعه الناس، عليك بالانتظار، أن تمنحهم الوقت، فالزمن هو الذي يحكم، الزمن هو المقامر قبالتنا على الجانب الآخر من الطاولة، وفي يده كل أوراق اللعب، وعلينا أن نحزر الأوراق الرابحة». (ترجمة محمد حبيب)