«المكتبة الجهنمية»، «مكتبة الجحيم»، «أدب الديكتاتور ــ تاريخ الطغاة من خلال كتاباتهم»... عناوين مختلفة حملها كتاب واحد، وفقاً لذائقة دور النشر التي طبعت الكتاب الذي وقعّه دانيال كالدر بالإنكليزية (2018). كان كالدر حينها يعيش في موسكو، متنقلاً بين بيوتٍ مستأجرة كثيرة، لكن ما لفت انتباهه في هذه البيوت جميعها، وجود كتب لينين في رفوف مكتباتها. كاد أن يتجاهل هذه الصورة المكرّرة، لولا مشاهدته نصباً تذكارياً لكتاب يحمل صورة ديكتاتور منقوش بالذهب على الغلاف الأمامي. كانت المحطة التي تبث هذا الشريط تخصّ التلفزيون الرسمي لدولة تركمانستان المستقلة حديثاً عن الاتّحاد السوفياتي. أمّا الكتاب، فيحمل عنوان «الروح نامه» الذي ألفه رئيس البلاد صابر مراد نيازوف. من هنا أتاه الإلهام باقتفاء أثر الكتب التي حملت تواقيع طغاة. وبدا أنه وقع على كنز من الكتب السيئة، من وجهة نظره. هكذا استلّ كتاباً وراء آخر من كتب لينين، التي تجاوز عددها الخمسين، ونحو 3700 وثيقة مؤرشفة، يفتّش عن لغز تأثيره بملايين القرّاء في العالم. تفهّم أهمية ماركس كمعلّم، بسبب نقده اللاذع للرأسمالية، لكنه أُصيب بالذهول أمام 94 مليون جثة تسبّب بها مريدوه باعتباره مصدر إلهامهم. وبدا الفرق شاسعاً بين نبي القرن التاسع عشر الذي مات مفلساً ــــ حضر جنازته أحد عشر شخصاً فقط ــــ ومفسّري نصوصه في القرن العشرين مثل لينين وستالين وماو. في عشق آباد عاصمة تركمانستان، توقّف طويلاً أمام ذلك النصب الذي شاهده على الشاشة قبلاً، فيما كانت صفحات «كتاب الروح» تُبث إلكترونياً، بوصفه كتاباً مقدّساً. لم ينته الأمر هنا، ففي أكبر مساجد المدينة، سيعثر على عبارة محفورة على أحد جدران المسجد «القرآن هو كتاب الله، والروح نامه كتاب مقدّس». «الروح نامه» في كلّ مكان، في المدارس، والمؤسّسات الحكومية، وخطب أئمة المساجد، وزجاجات الفودكا، كما إنه أحد المقرّرات في الحصول على رخصة قيادة السيارة. وفي إحدى نزوات الزعيم، سيقول: «من يقرأ «الروح نامه» ثلاث مرات يومياً، سيدخل الجنة». أكثر من ذلك، سيصعد «الكتاب الوردي» إلى السماء، إذ تمّ إطلاق مركبة فضائية بواسطة صاروخ روسي، عام 2005، وعلى متنها نسخة من «الروح نامه»، وعلم تركمانستان، وستكتب إحدى صحف البلاد مانشيتاً مثيراً «الكتاب الذي غزا ملايين القلوب على الأرض، الآن يغزو الفضاء». ما إن طوى الصحافي البريطاني المتجوّل صفحات «الكتاب الوردي» حتى غرق في صفحات «الكتاب الأحمر» (1964)، وهو حصيلة أقوال ماو تسي تونغ، قائد الثورة الصينية. طُبع من هذا الكتاب مليار نسخة، وكان على كلّ مواطن صيني حمل نسخة منه طلباً للنجاة من حملات الجيش الأحمر «كان يُقرأ في المعامل كما تُقرأ النصوص المقدسة في الأديرة. ونُسب إلى الكتاب تحسين مهارات لاعب كرة الطاولة وعلاج السرطان». ولكن ماذا عن «الكتاب الأخضر» (1975)؟ كتاب بتوقيع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، ينطوي على مفاهيم غرائبية وفانتازية في بناء الدولة العصرية، وفقاً لحكمة وإلهام وجنون القذافي، بما يشبه دستوراً للبلاد، كما كان مقرّراً أساسياً في المدارس الليبية. لكن مهلاً، هناك مجموعة قصصية كتبها العقيد، هي «الأرض الأرض، القرية القرية، وانتحار رائد الفضاء» التي مجّدها عشرات الأدباء والنقّاد العرب، من حمَلة المباخر. القائمة طويلة، هناك «كفاحي» أو «أربع سنوات ونصف من الكفاح ضد الأكاذيب والغباء والجبن» كتبه الزعيم النازي هتلر أثناء وجوده في السجن. وبعد وصوله إلى حكم ألمانيا، لاقى هذا الكتاب العنصري المحتشد بالكراهية رواجاً استثنائياً، إذ كان يوزّع على الجنود مع العتاد العسكري ويُهدى إلى العرسان الجدد في ليلة زفافهم مجاناً. وباندلاع الحرب العالمية الثانية، كان الكتاب قد تُرجم إلى 11 لغة وبيعت منه نحو خمسة ملايين نسخة. وسيكتب ستالين «الطريق القصير»، كما لن ينقصه الإلهام الشعري في حمّى اندفاعاته الرومانسية. من جهته، اهتم صدّام حسين بكتابة رواية، من دون أن يضع اسمه على غلافها، مكتفياً بعبارة «رواية لمؤلفها» عن ملك يقع في غرام شابة، في مجاز عن شغفه بالعراق. ولن ننسى مذكرات موسوليني، وكيم جونغ إيل الذي كان ناقداً كبيراً للأفلام «إذا فكرت في الديكتاتوريين بشكل عام، فهم يعملون في مجال الأوهام». ويضيف دانيال كالدر في تقديم كتابه الذي ستصدر نسخته العربية قريباً عن «دار نينوى» (ترجمة مأمون الزائدي) «هذا كتاب عن أدبيات الديكتاتورية، بمعنى أنه كتاب عن شريعة الأعمال المكتوبة أو المنسوبة إلى الديكتاتوريين. وعلى هذا النحو، فهو كتاب عن بعض أسوأ الكتب التي تمّت كتابتها على الإطلاق، وكذلك البحث فيها كان مؤلماً بشكل لا يطاق» هنا مقتطفات من الكتاب:
لينين: ما العمل؟
أُعجب لينين برواية نيكولاي تشيرنيشفسكي «ما العمل؟» حتى إنه قرأها خمس مرات في صيف واحد، وظلّ يحتفظ بصورة لتشيرنيشفسكي في محفظته. كان قد استلهم منها ــ بشكل خاص ـــ الانضباط الذاتي الرهباني المتقشّف لشخصية واحدة: «رحمتوف» الثوري الفائق، ذلك الزاهد الذي تخلى عن جميع وسائل الراحة البدنية والملذات الأنانية وعاش فقط من أجل القضية. يرفع الأوزان ويأكل اللحم النيء، حتى إنه ينام على فراش من المسامير ليصرف نفسه عن اشتهاء أرملة مغرية. تخلّى لينين عن لعبة الشطرنج والموسيقى ودراسة اللغات الكلاسيكية وشرع برفع الأثقال. ربما يكون قد تخطّى جزء النوم على سرير المسامير، لكنه بخلاف ذلك كان يوافق مع رحمتوف على أن «الثورة كانت كلّ شيء». وهكذا، بطريقة بورخيسية للغاية ــ فقط من دون أيّ من السخرية أو المهارة أو المرح ــ اخترق إبداع تشيرنيشفسكي العالم المادي وصار كتاب «ما العمل؟» أسطورة حيّة، يعيد صنع الحياة، يتنفس الناس على صور شخصياته ثنائية الأبعاد. تماماً مثلما أخذ الكوكب الخيالي الذي ابتدعه مجتمع سرّي في حكاية بورخيس الفانتازية، يحلُّ تدريجاً محلّ الواقع، فقد أعاد لينين، المصاب بفيروس كلمة تشيرنيشفسكي، إعادة بناء نفسه على صورة شخصية وهمية خيالية، ليصبح إلهاً حياً مجسّداً للثورة.

(كريستيان نورث إيست)

في الوقت الذي انتسب فيه لينين إلى كلية الحقوق في جامعة قازان، خريف عام 1887، كان بالفعل قد صار متطرّفاً ذاتياً، بعدما جمع هوية جديدة من الأفكار السيئة التي وجدها في مجموعة متنوعة من الكتب المريعة. رجل كأحجية تمّ تجميعه من قطع مفكّكة من النصوص المتواضعة والخطيرة. لم يدم طويلاً كطالب في جامعة قازان، فقد طُرد قبل نهاية العام لمشاركته في الاحتجاجات، وكان مضطراً للعودة إلى نعيم أمه في كوكوشكينو، حيث عمّق معرفته بالأدب الراديكالي. في عام 1889 قرأ «رأس المال» لماركس.
وفي تلك السنة نفسها، انتقلت العائلة إلى مكان آخر في الجنوب، حيث حوّل لينين انتباهه إلى ترجمة النص الثوري الأسمى لمن هم في عمره، ولكلّ الأعمار «البيان الشيوعي» لماركس وإنجلز. في منفاه السيبيري، قام بمحاولات غير ناجحة لجعل عروسه الثورية حاملاً، فعمل على كتابه «تطوّر الرأسمالية في روسيا»، الذي كان يأمل أن يتم تلقيه كعمل ذي أهمية كبرى في التحليل الماركسي. أرسل إليه أصدقاؤه وعائلته كتباً، وتصفّح أكثر من مئة منها، بما في ذلك أعمال الاقتصاديين الغربيين، التي تعرّض لها بتحليل نقدي لا هوادة فيه. أكثر من خمسمئة صفحة بتوقيع مؤسّس أدب الديكتاتورية في القرن العشرين. كانت لهجته واثقة، لكن جافّة ومدرسية. سيتمكّن لينين من جعل أعماله النظرية «المحترمة» الطويلة تُطبع بشكل قانوني بتجنّبه الهجمات البلاغية على القيصرية، وتمسّك بدلاً من ذلك بإيضاحات التحليل النظري الذي يمكن استخلاص الاستنتاجات المناسبة منه. كما نشر الكتاب تحت اسم مستعار هو «فلاديمير إيلين»، حتى لا يدرك مراقب الدولة أن مؤلّفه كان منفياً سياسياً. نجحت الحيلة. لقد وضع لينين بنجاح رائعته الأدبية بين يدي دار النشر في سان بطرسبرغ على أمل أن تصل إلى عدد أكبر من القرّاء مما كانت ستحصل عليه من خلال المطابع الموجودة تحت الأرض الثورية.
صدر «تطوّر الرأسمالية في روسيا» في آذار عام 1899، عشية القرن الذي سيكون فيه للينين أثر كبير. وبعد عقود من وفاته، ادّعى محرّرو «معهد الماركسية اللينينية» أن الكتاب حقّق نجاحاً هائلاً، وأن النسخ المطبوعة وعددها 2400 نسخة، بيعت بسرعة كبيرة، لكنّه في الواقع كان خيبة أمل. نثر نظري جاف تماماً، مصمّم هندسياً لإغراء القارئ بالخضوع أمام الفكر العظيم المعروض عليه، لكن هذا الأمر سيصبح أقلّ أهمية مع تطوّر الأدب الديكتاتوري.
يوضح «تطور الرأسمالية في روسيا» استعداد لينين لتشويه الواقع ليناسب احتياجاته النظرية والسياسية والنفسية. لا يمكن إنكار قوته العقلية، لكن هنا تكمن المشكلة: فالأشخاص الأذكياء للغاية مخطئون طوال الوقت، وهم جيّدون بشكل خاص في كونهم مخطئين لأنّ لديهم القدرة الإدراكية على بناء حجج مفصلة معاكسة للواقع، تبدو كأنها مدعومة بدليل منتقى بحكمة ومفسّر بذكاء. كان هناك شيء استبدادي عميق في افتراض لينين أن لديه القدرة على الكتابة عن العالم، ليألف الشروط التي تتطلبها نظريته كي تدخل حيز الوجود. ألهمته هذه التأملات أن يكتب واحداً من أكثر النصوص تأثيراً في القرن العشرين. سماه على اسم الكتاب الذي فعل أكثر من أي شيء آخر لتحويله إلى قضية الاشتراكية: «ما العمل؟» (مع عنوان فرعي إضافي: المسائل الملحّة لحركتنا).
في البداية، قد يصعب أن نفهم ما كلّ هذه الضجة. عند قراءة الكتاب بعد أكثر من قرن على نشره، فإنّ الانطباع السائد هو الانضمام إلى حجة مملة وغامضة في المنتصف. وهذا لأنّ لينين يخاطب مجموعة صغيرة من الثوريين الذين يعيشون متخفّين في روسيا أو في المنفى في الخارج يقرأون جميعهم الكتب والمجلات نفسها، يتشاجرون بشراسة حول أيّ من رؤاهم للماركسية هي الشرعية. مع ذلك، فإن أسلوب الخلاف يجعل من الواضح على الفور تفضيل معتقد لينين: ربما كان يخاطب مجموعة صغيرة من المثقفين على نحو فعّال، لكنه مثل جميع المؤلفين المسعورين، كان مقتنعاً بأن مصير العالم على المحك.

ستالين: «قتل الأب»
كان كتاب ستالين المفضّل «قتل الأب» لمؤلفه ألكساندر كازبيجي، الراعي الجورجي النبيل الذي كان يستمتع بتخويف رفاقه الرعاة بدبّ يمسك بسلسلته. كتب كازبيجي ميلودراما مليئة بالتفاصيل الثقافية الأصيلة كانت تباع بشكل كافٍ لجعله أوّل مؤلف محترف في جورجيا؛ أو على الأقل هكذا كانت حتى حظرتها الرقابة الإمبراطورية لكونها تنتقد القيصرية. توفي كازبيجي، فقيراً ويائساً، عن عمر يناهز الخامسة والأربعين عام 1893 بسبب مرض الزهري الذي أصيب به عندما كان يدرس في موسكو. بطل «قتل الأب» هو كوبا، قاطع طريق على غرار روبن هود ينضم إلى مجموعة من الخارجين عن القانون لمحاربة الروس والمتعاونين الأرستقراطيين المحليين، في الدفاع عن سكان الجبال الفقراء والشرفاء. كان هذا الكتاب عند ستالين بمثابة «ما العمل؟» بالنسبة إلى لينين. ليست «قتل الأب» رواية تعليمية طنّانة ــ على الرغم من أنه كان يتمتع بعمل تشيرنيشفسكي أيضاً ــ بل غزلاً رومانسياً عنيفاً من النزاعات الدموية، والعدالة اليقِظة، والاستيلاء القوي على ممتلكات الآخرين. ارتبط ستالين بقوة مع شخصية «كوبا» لدرجة أنه أطلق الاسم على نفسه واستخدمه أكثر من أيّ اسم مستعار ثوري آخر، قبل عام 1917. تذكّر أحد الأصدقاء، في وقت لاحق، «أصبح كوبا إله ستالين، ومنحه معنى الحياة. أطلق على نفسه اسم «كوبا» وأصر على أن نسميه كذلك. وكان وجهه يتألق بكل فخر وسرور عندما أطلقنا عليه اسم كوبا». وهكذا، في حين جسد بطل لينين الأدبي راخميتيف رؤيةً للراديكالية والحداثة، كان ستالين رجل الجبال، والكفاح القديم، والعدالة الأبدية السامية. كان جزّار المستقبل رومانسياً في أعماقه. في الواقع، كان في روح ستالين الكثير من الرومانسية لدرجة أنه كتب قصائد شعرية، لكن كتاباته مملّة جداً.

صدّام حسين روائياً
في ثمانينات القرن المنصرم، وخلال حربه العبثية ضد إيران، كان صدام حسين في أوج حداثته، وكان عنصراً دينياً فعّالاً في خطابه وعقيدته، يعتمد بشدّة على الإسلام والتاريخ العسكري المجيد للعرب في تمجيد شخصيته. على سبيل المثال، قدم «دليلاً» على انتسابه إلى سلالة النبي محمد، وأطلق على طائرته الخاصة اسم البراق، وهو اسم الحصان المعجزة الذي ركبه النبي من مكة إلى القدس في ليلة واحدة، في حين أشاد به شاعر على أنه «المهيب» صدام الذي «جلب نور الله/ إلى القبائل العربية/ وكسر أصنامهم/ في العصور الطويلة الماضية». بقرب نهاية نظامه، في أعقاب كارثة حرب الخليج الأولى، وسنوات العقوبات الأميركية التي تلتها، أمر صدام بكتابة نسخة من القرآن بدمه كدليل على تفانيه في خدمة الإسلام. وفي الوقت نفسه، دخلت كتابات صدّام حسين الخاصة مرحلة جديدة. ففي حين كانت منشوراته السابقة تمارين عنيفة إلى حدّ ما في الأدب الديكتاتوري تقدّم القليل على طريق الابتكار، بدأ الآن تجربة ثورية. وأخذ يستخدم النثر ليس كتعبير عن عبادة الشخصية، بل عن الشخصية نفسها، ومحاولة التواصل مباشرة مع «الناس». بعبارة أخرى، بدأ يكتب مثل المؤلف «الحقيقي»، وفي قيامه بذلك، أصبح أول ديكتاتور جاثم يؤلف عملاً خيالياً منذ أن أبدع فرانكو «العرق» في غضون أسبوعين في عام 1941. ومع ذلك، فإن رواية صدام حسين، الرومانسية التاريخية الفلسفية التي جاءت بعنوان «زبيبة والملك»، كانت أكثر طموحاً وأكثر ذاتية من ميلودراما فرانكو الجامدة. إنها ليست جيدة بأيّ حال من الأحوال، لكنها على الأقل عمل أدبي وليست نصباً، وبالمقارنة مع معظم الأعمال الأخرى في الشريعة الديكتاتورية، فهي صادقة جداً.

الروح نامه
في غضون عام أو عامين، بدأت كلمات وأفعال صابر مراد نيازوف صاحب لقب «تركمنباشي» تجتذب اهتمام وسائل الإعلام الغربية. لم يكن الأكثر قسوة، ولا الأكثر عدوانية، ولا حتى أكثر الديكتاتوريين أهمية من الناحية الجيوسياسية، لكنّه كان الأكثر تلوّناً من القذافي، وربّما تجاوز العقيد في ذلك المقياس. من الذي حظر الأسنان الذهبية والباليه والأوبرا والسيرك والتدخين؟ من غيره قام بتغيير اسم شهر يناير ليتسمّى على اسمه وسمى خبزاً على اسم أمه؟ من سواه كان له تمثال ذهبي يقف على قمة حامل ثلاثي يدور طوال اليوم حتى تكون الشمس في قبضته دائماً؟ ومن غيره قام بتأليف كتاب لم يكن مطلوباً للقراءة فقط عند إجراء اختبار لقيادة السيارة، بل يوضع أيضاً بجوار القرآن والكتاب المقدس في مداخل المساجد والكنائس؟ من غيره قام بتأليف كتاب، إذا قرأته من البداية إلى النهاية ثلاث مرات، فسيضمن لك الدخول إلى الجنة؟ من قام بتأليف كتاب مقدّس إلى درجة أن مقتطفات مسجّلة منه كانت تُتلى على مآذن أكبر مسجد في كامل آسيا الوسطى؟ من قام بتأليف كتاب له مثل هذه الأهمية في زلزلة الزمن، وتمت إعادة تسمية شهر سبتمبر على شرفه؟ ومن الذي قام بتأليف كتاب تُرجم إلى أكثر من لغة بوساطة شركات متهكمة أملاً في الوصول إلى عقود الأعمال المثيرة؟ لا أحد، بل هو. لم يذهب حتى كيم جونغ إيل إلى هذا الحد.
تمّ طرح فكرة احتياج التركمان إلى «كتاب الروح» للمرة الأولى عام 1991، حين كان الاتحاد السوفياتي على شفا الانقراض. اقترح مؤرّخ بارز تجميع مختارات من الفولكلور والتقاليد التي من شأنها إعادة ربط التركمان بماضيهم بعد سبعة عقود من الحكم السوفيتي. قبل الثورة، كان التركمان شعباً بدوياً له ثقافة شفهية وغير مكتوبة في المقام الأول، ووفقاً لمصادر سوفيتية، كان ما بين 97 إلى 99 في المئة من السكان أميين، عندما تأسّست جمهورية تركمانستان السوفيتية الاشتراكية في عام 1925. وهكذا، كان تاريخ الأمة حكاية ماركسية لينينية لعب فيها التركمان دور شعب متخلّف تم دفعه إلى المستقبل المنير عبر ثورة نشأت في المركز الإمبراطوري القديم. من السهل أن نرى سبب اعتبار العمل التصحيحي ضرورياً، وتمّت التوصية بالكتاب، لكن نيازوف أوكل مهمة الاستعانة بمصادر خارجية لإنتاج هذا النص الأول لـ«كتاب الروح» إلى لجنة. لم تكن من ضمن قائمة أولوياته في هذا الوقت حتى ظهر الكتاب تحت اسم السكرتير الصحافي الذي أشرف على المشروع. لكن تم سحب «كتاب الروح 1» بسرعة من التوزيع لأنه لم يكن مناسباً للغرض، وبدأ العمل بدلاً من ذلك على «كتاب الروح 2». في هذه المرة كان هناك شاعر ومؤرخ وعدد قليل من المؤلفين السوفيات السكارى. في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، تحوّل نيازوف إلى «تركمنباشي»، الملك الإله، وأب الأمة. لم يعد يرد على الأسياد في الكرملين. لقد فهم جيداً الفعالية المالية التي تأتي من الجلوس على رابع أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم. كانت تركمانستان مستقرة داخلياً وليس لديها أعداء. وكان نظامه غارقاً في المال. ولقد فعل أشياء عظيمة. وسيفعل ما هو أكثر. كان سيكتب للتركمان «كتاب الروح» بنفسه.