ترجمة: آدم فتحيرسالة إلى فرناندو سافاتير
باريس، 10 ديسمبر 1976
صديقي العزيز،
في نوفمبر عند مُرورِكَ بباريس طلبتَ منّي المساهمةَ في كتابٍ تكريماً لبورخيس. كانت ردّةُ فِعْلِي الأولى سلبيّة وكذلك كانت ردّةُ فِعْلِي الثانية. مَا فائدةُ الاحتفال به إذا كانت الجامعاتُ نفسُها تفعلُ؟ لقد أُصِيبَ بلعنةِ المُعتَرَف بهم. وكان يستحقّ أفضل من ذلك. كان يستحقّ أن يبقى في الظلّ. في غيرِ المَلْحُوظ أن يظلّ عصيّاً على الإدراك وغير شعبيٍّ كما هي الرهافة. هناك هو في مكانه.
ليس مِنْ عقوبةٍ أسوأ من التكريس بالنسبة إلى الكاتب عموماً، وبالنسبة إلى كاتبٍ من نوعه تحديداً. ما إن يستشهد به الجميع حتى يُصبح الاستشهادُ به غيرَ ممكن، وإذا فعلْنَا، انتابنا الإحساس بأنّنا لا نفعل غير تضخيم حَشْدِ «مُعْجَبِيه»، أي أعدائه. إنّ أولئك الذين يريدون إنصافَهُ بأيّ ثمن لا يفعلون في الحقيقة غير التعجيل بسقوطه. أتوقّف عند هذا الحدّ لأنّي لو تماديتُ في هذه النبرة لانتَهَى بي الأمرُ إلى الرثاء لمصيره. في حين أنّ لدينا كُلَّ مَا يُرجّح أنّه مصيرٌ يعملُ عليه بنفسه.

«بورخيس» لتوليو بيريكوللي ــ 1987

أعتقد أنّي قلتُ لك في مرّةٍ سابقة إنّي لم أهتمّ به كلّ هذا الاهتمام، إلّا لكونه يُمثِّلُ في نظري عيّنةً من بشريّةٍ في طريقها إلى الانقراض، ويُجسِّدُ مُفارَقةَ المُقِيم الذي لا يملك وطناً فكريّاً، المُغامر الساكن، المرتاح في حضاراتٍ وآداب عديدة، الوحش الرائع والمُدَان.
قد يقودُنَا البحثُ عن نسخةٍ مطابقةٍ لهُ في أوروبا إلى التفكير في أحد أصدقاء ريلكه، رودولف كَاسْنِرْ، الذي نَشَرَ في بداية القرن دراسةً من الطراز الأوّل في الشعر الإنكليزي (قراءتُها خلال الحرب الأخيرة هي التي جعلتني أنْكَبُّ على تَعَلُّمِ الإنكليزيّة) وتحدّثَ ببصيرةٍ مبهرة عن ستيرن وغوغول وكيركغارد وكذلك عن المغرب العربي والهند. لقد استطاع أن يوفّق بين العمق وسعةِ الاطّلاع على الرغم من أنّهما لا يتوافَقان، وكان عقلاً كونيّاً لم ينقصه إلّا الحضور والفتنة.
هنا يظهر تفوّق بورخيس، الفاتنُ منقطعُ النظير، الذي استطاع أن يُضْفِيَ شيئاً غيرَ محسوس، شيئاً هوائيّاً شبيهاً بالدانتيلَّا، على أيّ موضوع، حتى لو تعلّق الأمر بأعْوص تحليل، لأنّ كلّ شيء لديه يتجلَّى بفضل اللعب، بفضل رقصةٍ من اللُّقَى الخاطفة والسّفسطات اللذيذة.
لم أشعُر قَطُّ بأيّ انجذاب إلى العقول المحصورة في شكلٍ واحد من الثقافة. عدَمُ التجذُّر. عَدَمُ الانتماء إلى أيّ طائفة. ذاكَ كان شعاري وذاك هو شِعارِي إلى اليوم. تَشَوَّفتُ دائماً إلى آفاق أخرى، فحاولتُ باستمرارٍ الاطّلاعَ على ما يحدث في غير مكاني.
في العشرين من عمري، لم يعد البلقان قادراً على منحي أيّ شيء. كانت تلك مأساةَ ومِيزَةَ أن يُولَدَ المرءُ في فضاءٍ «ثقافيّ» ثانويٍّ غيرِ ذي شأن. أصبح الغريبُ إلهي. من ثمّ جُوعِي إلى الترحال عَبْرَ الآداب والفلسفات، والتِهامِي لَها بحماسةٍ مَرَضيّة. كان لا بدّ لِما يَحْدُثُ شَرْقِيَّ أوروبّا أن يَحْدُثَ في بلدان أميركا اللاتينيّة. وقد لاحظتُ أنّ ممثّلي تلك البلدان أوسع اطّلاعاً بكثير وأكثر «ثقافة» من الغربيّين الذين باتوا إقليميّين ميؤوساً من شفائهم.
لا أرى في فرنسا ولا في إنكلترا أحداً لديه فضولٌ يُقارَنُ بفضول بورخيس. فضولٌ مُحَفَّزٌ حدَّ الهوس، حدّ الرذيلة، وأشدّد على الرذيلة، لأنّ كُلَّ ما لا يتحوّلُ في مجالَي الفنّ والتفكير إلى حماسة منحرفةٍ بعض الشيء، يظلّ سطحيّاً، ومن ثمَّ غيرَ حَقِيقيّ. حُمِلْتُ كطالبٍ على الاهتمام بأتباع شوبنهاور، ومن بينهم فيليب ماينلاندر الذي شدّ انتباهي بشكل خاص. كان يملك في نظري إضافةً إلى كتابه «فلسفة الخلاص»، التوَهُّجَ الذي يمنحه الانتحار. وظللتُ أفخر بأنّي الوحيد المهتمّ بذاك الفيلسوف المنسيّ تماماً. والحقّ أنْ لا فضْلَ لِي في الأمر، فقد كان من شأن طبيعةِ أبحاثي أن تقودني إليه لا محالة. من ثَمَّ لا تَسَلْ عن دهشتي حين وقعتُ بعد ذلك بكثيرٍ على نصّ لبورخيس يُنقِذُ هذا الفيلسوفَ تحديداً من النّسيان.
لا أذْكُرُ لكَ هذا المثال إلّا لأنّي شرعتُ منذ تلك اللحظة في التفكير بجديّةٍ أكبر في وضع بورخيس، المنذُور إلى الكونيّة بل المرغَم عليها، المضطرّ إلى إعمال فكره في كلّ اتجاه، على الأقلّ فِراراً من الاختناق الأرجنتينيّ. إنّ العَدَمَ الأميركي الجنوبيّ هو الذي يجعل كُتّاب قارّةٍ بأكملها أكثر انفتاحاً، أكثر حياةً وأكثر تنوُّعاً من الأوروبيّين الغربيّين، الذين شَلَّتْهُم التقاليد فباتوا عاجزين عن الخروج من تَصَلُّبِهم المَهيب.
أمّا وأنتَ تريد أن تعرف ما الذي أُحِبُّ أكثرَ لدى بورخيس، فها أنا أجيبك من دون تردُّد: راحَتَهُ في المجالات الأكثر تنوّعاً. قُدرتَه على الحديث بالرّهافةِ نفسها عن العَوْدِ الأبديّ والتانغو. الكُلُّ بالنسبة إليه سَواءٌ ما دام هو مركز الكُلّ. لا يَدُلُّ الفضولُ الكونيُّ على الحيويّة إلّا حين يحمل العلامة المطلقة على «أنا» ينبثق منها كلّ شيء ويَؤُول إليها كلّ شيء: «أنا» تمثّل سيادةَ الاعتباطيّ. البدايةَ والنهاية اللتين يمكن تَأَوُّلُهُمَا حسبَ المقاييس الأكثرَ مِزاجِيّة. أين الواقع في كلّ هذا؟ الأنا - المهزلة القصوى. يُذكّرُ اللعبُ لدى بورخيس بالسّخرية الرومنطيقيّة، بالاستكشاف الميتافيزيقيّ للوهم، بلَعِبِ الخِفّة مع اللانهائيّ. فريديريك شليغل يسند ظهرَه اليوم إلى باتاغونيا.
مرّةً أخرى لا يَسَعُنا إلّا الأسف على أنّ ابتسامةً بهذه الموسوعيّة ورُؤيةً بهذه الرهافة تثيران هذا القَبُولَ الشامل مع كلّ تبعاته. لكن مهما كان الأمر، قد يصبح بورخيس رمزاً لبشريّةٍ خالصةٍ من العقائد والنُّظُم. وإذا كان ثمّةَ مِنْ يُوتُوبيا أقبَلُ بها طَوْعاً، فهي تلك التي يسير فيها كُلٌّ على مثال بورخيس، أحد العقول الأقلّ إثارةً للمَلَل و«آخر المُرْهَفِين».

* فصل من كتاب «تمارين في الإعجاب» لإميل سيوران، يصدر قريباً عن «منشورات الجَمَل» ــ بيروت ــ علماً أنّ أعمال بورخيس كلّها ستصدر تباعاً عن الدار المذكورة