شاعرٌ لم يَكلّ أبداً عن رفد المكتبة العربية، وبغزارة، تأليفاً وترجمةً، بنصوص طليعية وتجريبية تربت عليها ذائقة جيل كامل؛ صوت من أهم أصوات جيل سبعينيات القرن الماضي في مصر. بشساعة قلبه، لم يكن محمد عيد إبراهيم (القاهرة: 1955- 2020) يبخل على أصدقائه بالرأي والتدقيق في نصوصهم لغةً وفكرةً. وبما أنه قادم من احتكاك قوي بالآداب العالمية قراءةً وترجمةً، لم يكن لذلك إلّا أن يترك أثراً في طراوة شعره وتجدد أساليبه من ديوان إلى آخر، في شبه عزلة عن الوسط الثقافي المصري، لولا وجوده النشيط على وسائط التواصل الاجتماعي التي سمحت لنصوصه الموضوعة والمترجَمة بوسم اللحظة الأدبية الراهنة بطابعه الخاص الذي ترك مَلْمَحاً ظاهراً في كلّ من عرفه عن قرب أو بعد. توقف قلب «مولانا» صبيحة الخامس من كانون الثاني (يناير) الحالي، لكن أعماله الأدبية والترجمية باقية، شاهدةً على صوت شعري متفرد وناقد/ قارئ/ مترجِم له حصة لا يستهان بها في نقل الآداب العالمية إلى العربية.
1. أبتسم في صلاتي
بين الحِضنِ الأولِ والأخيرِ
دائرةٌ مقفلةٌ.
لمسةٌ كهربيةٌ
كالسّياجِ على وجهكِ الصوفيّ
حينَ يركَن إلى الكنبةِ، على فمكِ
كقصيدةٍ أخيرةٍ
أكبر من أن تولَدَ.
جسمكِ فاكهةٌ ليلاً
بألوانٍ دوّارةٍ كالصدى
بعدما يخجل أن يتكلّمَ..
لو حذفتكِ من الأزرقِ
لما بقيَت أرضٌ ولا سماءٌ
بل فلاةٌ تغرق وجهَكِ
وهو سالب الحبّ إن يتبخّر
منكِ كالصمتِ في سبتمبرَ
والهواء إيماءٌ من الحلمِ، بكِ،
بي بانَ ظلٌّ أبيض ثائرٌ
على جَبهتكِ
بينما عيناكِ بسمٍّ عاطفيٍّ
وإصبعي فوقَ ثديكِ
كانَ ينير ساعةً ثم ينطفئ.
خطوةٌ على الرصيفِ، في الشارعِ
خمرةٌ شفّافةٌ منكِ، تركض وهي تومئ
إني أنا البذرة، لا تنشغلْ
بي، وإلا حرَقتكَ..
ذاتَ يومٍ، في غدٍ، أراكِ، ما
بينَ إصبعَيّ، تنامينَ، وجهكِ
لأعلى، وجسمكِ مائدةٌ للسماءِ،
وكنت أعمىً
لا أرى الشمسَ بينَ فخِذَيكِ، وهي تسلَخ
حلمي أن يتنفّسَ، لا
أعقِد رأيي أن أهبّ
فقد كانَ يخفيكِ غيمٌ تعلّمَ
أن ينقبضَ ويبسطَ حلقتَه
لا يني
حتى تسافرَ شهوتي
نحوَ منتصفِ الصيفِ، يا
خضراءَ مكدومةً
قد تحلّلت، كالجثمانِ، في عينَيكِ، إني
ليلٌ جاهلٌ بتاريخِ لحمكِ الرّطبِ
حينَ يفيض الزمان، وألهو
بنفسي، عليكِ..
إلى عالَمٍ فوقَ أرضيٍّ،
أقلِبكِ، كانَ جسمكِ مائدةً للسماءِ، وكنت
زوجَ الطبيعةِ، فاشربي
خضرتي، نقطةً نقطةً، بدمي حياةٌ
وكنتِ الرغيفَ إلى جنّةِ الإنسانِ.
طائرٌ يصحو، فوقَ شجرةٍ
ينفّض جناحَيهِ من ذَهبِ الليلِ
وعلى بطنهِ يتسحّب
مثلَ كريمِ العينِ، إلى الحِضنِ الأخيرِ:
هذا الموت عذريٌّ..
[رب على شكل طائر، 2018]

2. مشهد طبيعيّ
أدخل وردة
وأنا أشدّ بأسناني على فخذك،
كي أحقّق الاتّزان لسيّاف التذّ بالضمّة.

3. باب
عادت إلى المصباح، تصرخ
فجأة، ودخّان على قلبها: ألهذا تمطر السّماء،
حين ترى مفاصل الأشجار قفلاً من
العدم، وعليها أن تفتحه؟

4. جهة الحشد
مجد على الطّين
في حشرجتي الأخيرة،
أدنى المعاني النّباح.
[ملّاح، تحبسه الرماح: الأعمال الشعرية، ج1، 2007]

5. آنا ديلجاديلو: الإحاطة بمولدي في فيراكروز
على يقينٍ أني سمعت هديرَ الطائرةِ من بطنِ أمي، صادماً أذنيّ المقلوبتَين رأساً على عقِبٍ. لوّحَ والداي بالوداعِ عبرَ نخيلِ جوزِ الهندِ في فيراكروز. كان عمي يطير شمالاً مع الإوزّ. أحياناً أحسّ برأسي خافقاً يرتجّ في قشرةِ حَوضِ أمي وهي تدلف إلى السيارةِ لمغادرةِ المطارِ. متشوّقة للعودةِ، للهربِ من الأدخنةِ. ارتددت في خِرَقٍ داخلَها، كحصاةٍ أثناء زلزالِ أوكسيكا، الذي ميّزَ يومَ مولدي. عبرَت السيارة حدّ المدينةِ متوجّهةً عبرَ الجسرِ حيث مصبّ نهر جامابا وهو يذوق ملحَ البحرِ، فتصل الطريقَ المظلّلةَ بشجرِ المانجو، من تيناجاس إلى تييرابلانكا. أوكسيكا على بعد ساعةٍ، لكن تظلّ بعيدةً عن البيتِ. قطّبَت أمي بالمِقعدِ الخلفيّ، وهي تحسّ برابطتنا، لؤلؤة ضمنَ محارةٍ في علبةٍ معدنيةٍ مدخّنة. شاحنةٌ حمراء مرّت جنبَ شاحنةٍ أخرى، جاوزتنا. فانفجرَت طلقاتٌ، منسابةً، كمدافعَ من الشاحنةِ، تصيب رجالاً فارّين. لمست ساقاي طرفَ أنفي، بينما دفع أبي رأسَ أمي ما بينَ ركبتيها، كلّ هذا لأن فقراءَ يسعون للفرار من أن يظلّوا فقراءَ.
تقول أمي إنها تحسّ بي، أفتّش عن كوّةٍ لأرى. وددت أن أرى. وددت أن أعرف. حشرت فيها رأسي، أفتح رحِمَها كنافذةٍ. لا تزال أمي تذكر الألمَ. هرولَ بنا أبي إلى أقربِ مستشفى، حيث أشهد بعدَ سبعةِ عشرَ عاماً جدّي يموت. تذكرني أرضية المستشفى. تذكر خطواتِ أبي القلقةَ، حذاءَه جلدَ الثعبانِ وهو يطأ بلاطَ المشمّعِ. تذكر هزّةَ الأرضِ.
[من قصائد كتاب: مقدمة لقصيدة النثر، ترجمة]

6. ديان بيرنز: عادات جوج [من شعر الهنود الحمر]
هياكل فئرانٍ صغيرةٍ
معلّقةٌ من شجرةٍ تنغرس بأذيالِها
فيصلصل عظمها واهِناً
هادئاً، كلٌّ عظمةٍ جنبَ الأخرى،
وهي تنحني لنسيمِ الربيعِ.
أما جوج في العادةِ
فهو يقتني مظلّاتٍ لونَ الفضّةِ
ولديهِ قائم مانيكانَ من مانهاتنَ، الآنَ
يرتاح في كرسيِّ قَشٍّ أخضرَ
يرقب العظامَ الرماديّةَ البائدةَ من شَجَرتهِ
تترنّح، وهي تتعفّن موتاً
يحفظ قطعةَ جبنٍ أمامه،
ثم يصحو أحياناً ليغرسَ
فأرةً أخرى إلى الشجرةِ. [ترجمة]

7. إديت سودرجران: أزهاري الاصطناعية
لي أزهارٌ اصطناعية
أوفِدها لبيتكَ.
لي أسودٌ من برونزٍ صغيرة
أطرحها عند بابكَ
أقعد بذاتي هنا فوقَ الدرَج
لؤلؤةً من الشرقِ منسية
على بحرِ المدينة الهادر. [ترجمة]

8. بول كِلي: القطة
جزءٌ من القطّة:
أذنها،
تتغذّى بملءِ الملاعقِ
من الصوتِ، رِجلها
تقوم بجولةٍ، هي
الجولة،
عيناها، تشتعلان
في عنابرِ مستشفى، تشتعلان
عبر كلّ سميكٍ
وكلّ نحيل.
وجهها
الذي يحظر على الجميعِ العودةَ:
بديعٌ
مزهرٌ
لكنه معادٍ بأسلحةٍ،
ولا شيءَ
تفعله بنا، في
النهايةِ. [ترجمة]

9. جون كيتس: الحبيبة الخالدة
هذه اليد المضطرمة،
هي الآنَ حانيةٌ مستطيعةٌ
لعناقٍ جادّ، وإن كانت باردةً
في سكونٍ ثلجيٍّ بمقبرةٍ،
تلازم أيامكِ وتهدّئ لياليكِ
الحالماتِ، حتى وددتِ لو خلا
قلبكِ من دمهِ، ليبلّ
شراييني حمراءَ ثانيةً بالحياةِ،
وضميركِ يستنيم فانظري،
ذي يدي أرفعها إليكِ. [ترجمة]

10. طقوس الكتابة [آخر نص كتبه الراحل]
لكلّ كاتب صيغة معينة في حياته قد يبدأ الكتابة معها وفيها. بعضهم يكتب في أي ظرف معيشي، وبعضهم يمضي إلى مكان محدّد، أما أنا فلا بدّ أن يكون الجوّ حولي هادئاً مرتباً نسبياً، لكن حولي الكتب، لا يهم أي كتب، لكن مجرد وجود الكتب يؤنسني ويهيئ لي نفسي، حتى أرتب كل ما في داخلي.
هناك طبعاً (القصائد الهبات) كما قال عنها إليوت، وهي التي (تهبط) عليك ولا تستطيع معها شيئاً، وليس لك أن تغير فيها حرفاً، هذا غير طبيعتي في كتابة الشعر، حيث أكتب وأنظر فيما كتبت مرة ومرات، حتى أرضى عن النص أو يرضى هو عني فلا يعود بي حاجة إليه، الشعر عموماً يأكل روحك حين تكتبه، وعليك أن تهضم أحواله غير المطمئنة غير الثابتة غير المضمونة، وقد يقطع عليك شيء بسيط تفكيرك وأنت تكتب فلا يعود بعدها أبداً، وتموت القصيدة في مهدها، هي عموماً لا تموت نهائياً بل يتم لها نوع من (التحويل) أو (التسامي) بدرجات ما، أو حتى (التناسخ) من جديد في شكل آخر وهيئة أخرى.
الشعر في النهاية، إن كان ثمة نهاية، مثل المرأة الناعمة، كائن خطير، فهي قد تستحيل إلى ذئب في لحظات، لتستكين ثانية، لكن إلى حين، فعليك دائماً أن تستعدّ، تكون أعصابك على وتر مشدود، لكن دون أن ينقطع، حتى لا تخسر كل شيء.
[شهادة قدمها الشاعر لأسبوعية «الطريق» المغربية، قبل أسبوع من دخوله المستشفى]


محمد عيد ابراهيم في سطور
محمد عيد إبراهيم (القاهرة: 1955- 2020) خريج إعلام في جامعة القاهرة (قسم صحافة عام 1978) من جيل السبعينيات الشعريّ، أسس مع مجموعة من الشعراء سلسلة «أصوات» الشعرية، ومجلة «الكتابة السوداء». أنشأ سلسلة «آفاق الترجمة» في هيئة قصور الثقافة في مصر، وعمل مديراً لتحريرها ما يزيد عن عامين، كما عمل مديراً تنفيذياً للمشروع القومي للترجمة في المجلس الأعلى للثقافة. أنشأ سلسلة «نقوش» للفن التشكيلي. من إصداراته كدواوين: طور الوحشة [1980]، قبر لينقض [1991]، على تراب المحنة [1995]، فحم التماثيل [1997]، الملاك الأحمر [2000]، مخلب في فراشة [2000]، بكاء بكعب خشن [2003]، خضراء الله [2004]، ملّاح تحبسه الرماح [2007]، السندباد الكافر [2009]، عيد النسّاج [2015]، مجنون الصنم [2016]، رب على شكل طائر [2018]. ومن ترجماته الشعرية نذكر: أشعار سودرجران [بالاشتراك، 1994]، آن سكستون: قصائد حب [1998]، رباعيات مولانا جلال الدين الرومي [1998]، سانتوكا: الهايكو، رحلة حج بوذية [2000]، تيد هيوز: رسائل عيد الميلاد [2002]، ديريك والكوت: نهايات [2003]، بورخس: النمر الآخر [2009]، جورج باتاي: ليل عريي [2016]، بيير ريفيردي التكعيبي [2016]، جاك كيرواك: ملاكي التالف [2019]. ترجمات روائية: توني موريسون: جاز [1995]، ميلان كونديرا: فالس الوداع [1998]، مايكل كننجهام: الساعات [2004]، توني موريسون: غرام [2004]، فنانة الجسد، دون ديليلو [2006]، أليساندرو باريكو: حرير [2006]، مايكل كننجهام: مذكّرات شخص [2006]، المركيز دو ساد: جوستين [2006]، آنا ميناندس: في عشق جيفارا [2007]، أليساندرو باريكو: حرير [2007]، هاروكي موراكامي: جنوب الحدود غرب الشمس [2007]، مورل مفروي: بنت مولانا [2007]، آمريتا بريتام: جلد على عظم [2010]، برومبادرام شري دهاران: مثل ترنيمة [2010]، مارك توين: يوميات آدم وحوّاء [2016]، هاروكي موراكامي: بعد الظلام [2016]، لويس أراجون: متاع إيرين [2016]، مايكل كننجهام: مذكّرات لا أحد [2018]. ومن ترجماته المسرحية: هارولد بنتر: رماد من رماد [2006]. ومن ترجماته القصصية: بورخيس: مرآة الحبر [1996]، إيتالو كالفينو: كتاب الحواس [1999]، شجرة مطر: قصص معاصرة [2001]، مرجريت أتوود: قصص كندية [2007]، إيتالو كالفينو: غراميات بائسة [2007]. ومن ترجماته النقدية: ليوناردو دافنشي: نبوءات [2014]، بريان كليمنس وجيمي دونام: مقدمة لقصيدة النثر، أنماط ونماذج [2014]، إيهاب حسن: دورة ما بعد الحداثة [2015]، إيهاب حسن: منعطف ما بعد الحداثة [2016]، جورج باتاي: إني أنا الشمس [2016].