عام 2016، مُنعتْ رواية «طعم الذئب» في الكويت، ومن ثمّ نالت جائزة أفضل كتاب عربيّ في «معرض الشارقة للكتاب» عام 2017، فراجَتْ الرواية وراجَ اسم كاتبها الروائيّ عبد الله البصيّص. أرجأتُ قراءتها فترةً طويلة كي أقرأها بعد أن يخفت الضّجيج المحيط بها. كانت لديّ تحفّظات عديدة على النّصف الثاني من الرواية، ولكنّ النصف الأول منها كان مدهشاً ويومئ بقوّة إلى روائيّ يتقن لعبة الكتابة بدرجة كبيرة، وإلى أنّه أفضل أبناء جيله من الكتّاب الكويتيّين؛ فهو روائيّ بصرف النّظر عن التحفّظات أو الملاحظات لدى قرّائه، بينما استقرّ مجايلوه في كوكب الحكاية بحيث تستحيل المقارنة بينه وبينهم. بات اكتشاف روائيٍّ جيّدٍ في المشهد الأدبيّ العربيّ فرصةً نادرةً، لذا عزمتُ على أمرين: أن أقرأ روايته الأولى «ذكريات ضالّة» (2014)، وأن أقرأ أيّ عمل قادم له. لم أنفّذ الأمر الأول، ولكن ترقّبتُ صدور روايته الثالثة «قاف قاتل، سين سعيد» (دار روايات). وكان الرّهان في محلّه، إذ تجاوز البصيص عثرات كثيرة وقعتْ فيها روايته السابقة «طعم الذئب»، ليقدّم لنا روايةً فاتنةً مكتوبة ببراعة، كرَّس فيها لنفسه مكانةً بين روائيّي العقد الأخير، في الكويت وفي العالم العربيّ، يصعب إزاحته منها في المدى المنظور على الأقل.

يبدأ زمن الرواية في عام 2014 ثمّ يدخل في متاهة لذيذة تعود بنا إلى عام 2008 ومنها إلى عام 1993 وقبله عام 1991، ومن ثمّ رجوعاً إلى عام 2014 في رواية شبه دائريّة ينتهي فصلها الأخير باستعادةٍ لفصلها الأول. أتحدّث عن «فصول» مجازياً لأنّ البصيّص لم يكتفِ بكسر الزمن، بل عمد إلى تقسيم السرد كما تُقسَّم الذاكرة أحياناً في فلاشات سريعة متلاحقة، وأحياناً أخرى تبعاً للتّسجيلات التّسعة والثلاثين التي خلخلت الزمن وبدّلت الشخصيّات الرئيسة في الرواية. تبدو الرواية أحياناً وكأنّها روايتان أو ثلاث ربما: رواية تبدأ بالمحقّق ماجد وتنتهي به، رواية تبدأ بموت فهد وولادة تسجيلاته وتنتهي بانفتاحٍ على أزمنة عديدة ماضياً وحاضراً، ورواية متشظّية بطلها العم عادل الذي يتسلّل إلى الروايتَين المتداخلتَين. يدفعنا البصيّص أحياناً إلى زمن السياسة والحرب حين نلمس وطأة سنوات غزو الكويت وتحريرها، ثم نكتشف أنّها محض لعبة سرديّة بارعة لأنّه يريد منّا اكتشاف سنوات التسعينيّات وبداية مرحلة المراهقة بكلّ إغواءاتها وطيشها ووعيها، ثم نكتشف مرةً أخرى أنّها لعبة سرديّة أخرى تأخذنا إلى معنى الزمن في ذاته ومنها إلى لعبة أخرى نحاول فيها فكّ تشفير الأشياء أكانت كلمات أم صوراً أم تسجيلات في تتابعات زمنيّة مرتبطة بالتكنولوجيا وآثارها، ومنها إلى لعبة تشويقيّة ندخل فيها إلى جريمة قتل كاد الزمن يمحو آثارها إلى أن نفض عنها زمنٌ آخر غبار الزمن الذي قبله. واللافت في هذه التحوّلات كلّها أنّ عالم البصيّص الروائيّ لا يعترف بالشخوص العابرة، إذ لا بدّ لكلّ شخصيّة من أدوار (لا دور واحد) تلعبها في كلّ تحوّل من تحوّلات الرواية، بحيث تبدو مثل قطع «بازل» صغيرة تضمّ صورتها الخاصة، ولكن مع اجتماع القطع والصور سنكتشف الصورة الكبرى التي لن تكتمل إلا باجتماع قطعها كلّها كبيرة وصغيرة.
ربما كانت رواية «قاف قاتل، سين سعيد» معنيّة بتحطيم الأوهام، أو بتعريفها أولاً بغية فهمها وتحطيمها. وهذا لا يقتصر على أوهام القارئ في هذه المتاهة السرديّة بل على الشخوص أنفسهم. يظنّ كلٌّ من عادل وفهد أنّهما قد وصلا إلى «الحل» الذي هو حل لغز حياتهما، ولكن بوسيلتين متعارضتين: عادل بالكلمات وفهد بالصور. ولا يقتصر هذا التّعارض على الوسائل؛ فالوسائل ليست إلا أدوات عصر كلٍّ منهما. لا يثق فهد بالكلمات كثيراً بل يثق بما رأته عيناه وبما حاول ذهنه تفسير تلك الرؤى، بينما لا يثق عادل إلا بالكلمات لا لكونها محلّ ثقة بقدر ما هي الوسيلة الوحيدة لنسف ما رآه ويحاول نسيانه.
يدفعنا أحياناً إلى زمن السياسة والحرب لنكتشف أنّها محض لعبة سرديّة بارعة

ولعلّ أكبر ضحيّة للأوهام هنا (إلى جانب القارئ) هو الراوي ماجد الذي يظنّ أنّه يمتلك مفاتيح فهم حياته وحيوات غيره ولكنّ اجتماع الكلمات والصور بدَّد كلَّ ما ظنَّ أنّه فهمه. بات العالم محض دخان. ولعلّ أكبر وهمٍ تحطَّم هو ظنُّ ماجد بأنّه يشبه عمّه بينما هما مختلفان بدرجة كبيرة: ماجد مهووس بإصلاح الأعطاب وبإيجاد معانٍ للأشياء عبر الكتابة، بينما عادل لا يكترث لمعنى الأشياء بل يهرب منها إلى الكتابة كي يخلق عالماً يرتاح فيه أكثر بعدما سحقه العالم الواقعيّ؛ ماجد يعيش الحكاية، بينما عادل يخلقها. وهذا هو الفارق الذي تقوم عليه الرواية، وإنْ كان إصرار البصيّص على استخدام الفصحى حتّى في الحوارات قد طمس الفوارق بين مفردات الشّخوص المختلفين بالضّرورة، ماجد وعادل على الأخص، وماجد وفهد بدرجةٍ أقل، وشلّة المراهقة التي يتوه القارئ أحياناً بين أفرادها.
لا تكتفي الرواية بتقديم عوالم زمنيّة متباينة، بل تقدّم لنا أيضاً عوالم طقس وعوالم مكان تُسهم بدورها في اكتمال الوهم وتبديده. شهر أغسطس يحكم عالم الحاضر بقوّة: عالم شمسٍ تبدّد أيّ فسحةٍ للهرب، عالم مواجهة مع ذوبان الأشياء وانهيارها وسرابها؛ الشّتاء والأمطار يحكمان عالم الماضي بدرجةٍ كبيرة: عالم تكوُّن الأشياء، وانغسالها، عالم حلم ينتظر شمساً تُحرقه لتعود قبضةُ السّراب. وكذلك تتأرجح الرواية بين الكويت وأيّ مكانٍ آخر عداها. تبدو الأماكن الأخرى أجمل دوماً، ولعلّها ملجأ أو هروب، وكأنّها عالمٌ آخر لا يشبه الكويت في شيء، عالم راحةٍ على الدوام، أكان مكاناً تقرؤه الشّخوص أو تسافر إليه أو تتخيّل أنّها فيه أو تتمنّى لو كانت فيه أو عادت إليه. يقدّم لنا عبد الله البصيّص في روايته «قاف قاتل، سين سعيد» عالماً قاسياً خانقاً يتذبذب بين خيارات لا يكون السؤال الأهم فيها: «أيُّ خيار أفضل؟» بل «أيّ خيار أقل وطأة؟»؛ عالماً تتبدّد فيه معاني الأشياء التي كنّا نظنّ أنّنا نفهمها؛ عالماً لا يعتمد على رؤانا وحدها بل على رؤى غيرنا، وعلى رؤى أزمنةٍ متداخلةٍ قد تُسهم في نفض أوهامنا.