وأود هنا أن أقترح أن تصحيفاً قد حدث في كلمة «أماني» هو الذي أنتج الغموض، وأن الكلمة في الأصل «أمالي»، من الجذر «ملى»، لا «أماني». والجذر «ملى» يعطي معنى الكتابة من فم شخص آخر: «أَمَلَّ الشيءَ: قاله فكُتِب. وأَمْلاه: كأَمَلَّه، على تحويل التضعيف. وفي التنزيل: فليُمْلِلْ وَلِيُّه بالعدْل؛ وهذا من أَمَلَّ، وفي التنزيل أَيضاً: فهي تُمْلى عليه بُكْرةً وأَصِيلاً؛ وهذا من أَمْلى» (لسان العرب). يضيف اللسان: «وقال: أَمللت عليه الكتاب وأَمليته. وفي حديث زيد: أَنه أَمَلَّ عليه لا يَستوي القاعدون من المؤمنين. يقال: أَمْلَلْت الكتاب وأَمليته إِذا أَلقيته على الكاتب ليكتبه» (لسان العرب).
أما الآيات التي تسبق الآية التي نحن بصددها، فتتحدث عن أهل الكتاب. وكان هؤلاء، حسب النص، يطلبون من بعضهم عدم الإفصاح للمسلمين عما في الكتاب وشروحه كي لا يستخدمه المسلمون ضدهم: «وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون» (البقرة 76). وتبعاً للآية، فإن بعض الذين كانوا يقولون مثل هذا القول كانوا من الأميين. وهو ما يعني أن القرآن كان يشمل الأميين عند الحديث عن أهل الكتاب بشكل ما. يدل على ذلك أن هؤلاء الأميين كانوا على معرفة ما بالكتاب كما تخبرنا الآية. وتصف الآية معرفة هذا الطراز من الأميين بالكتاب بأنها معرفة واهية أو موهومة. فهي مجرد أمالي، أي إملاءات مكتوبة، وليست من أصل الكتاب. أي أنها تفسيرات وتعليقات من أفواه الآخرين وليست من الوحي الأصلي في شيء، رغم ظن هؤلاء الأميين غير ذلك. وهذا ما قد يشير إلى أن كراسات، صحفاً، أمالي، لها علاقة بالكتاب المقدس كانت منتشرة في ذلك الوقت في مكة، وكان الأميون يتعبدون بها. وقد انتشر مصطلح «الأمالي» في الإسلام في ما بعد. فصار لدينا كتب (أمالي) كثيرة مثل «أمالي» أبي علي القالي وغيره.
يؤيد استخلاصنا هذا أن آيتنا تتحدث عن هذا الطراز من الكتابة بوضوح: «فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون». وكما نرى فهناك أناس يكتبون أشياء ليست من الكتاب ويجعلونها من الكتاب. هذه الكتابات هي الأمالي، أي الكراسات التي تملى وتكتب. وهي الكتابات التي يعرفها بعض الأميين المذكورين في الآية ويظنون أنها من الكتاب المقدس.
وَصف إبراهيم بالأمة يعني أنه لم يتبع رسلاً قبله، فملّته كانت بدءاً وتأسيساً
وإذا صح استخلاصنا هذا، فإنه يمكن تطبيق ما قلناه على الآية 52 من سورة الحج. فالتصحيف وقع فيها أيضاً. أو قل امتد إليها: «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته». ومن سياق الآية فقد فهم عموماً أن التمني هو التلاوة أو القراءة: «تمنى: أي قرأ وتلا. وألقى الشيطان في أمنيته: أي قراءته وتلاوته» (القرطبي، تفسير القرطبي) . لكن إذا قرأنا «تملّى» و«أمليته»، فستصبح الآية أكثر وضوحاً. فإذا تملّى أي الرسول، أي أملى على من يكتب له، تدخل الشيطان فألقى أمليته داخل أملية الرسول لتبدو كأنها جزء منها. والآية تشير إلى سورة النجم، فلما وصل إملاء الرسول للوحي إلى فقرة: «أفرأيتم اللات والعزى. ومناة الثالثة الأخرى»، ألقى الشيطان أمليته على لسانه بعد هذه الجملة، أي أملى على لسانه: «تلك الغرانيق العلى. وإن شفاعتهن لترتجى». بذا، فقد قطع إملاء الوحي بإملائه الشيطاني باعتباره جزءاً من الوحي القرآني، لكن هذا الإملاء نسخ من النص القرآني بأمر الله. وحسب الآية، فإن الرسل الآخرين كلهم كانوا يتعرضون لمثل هذا، حيث يقطع الشيطان الإملاء، أو التملي، عبر نص زائف يضيفه إلى النص الأصلي الصحيح.
بناء عليه فالأملية (أمليته) في الآية مفرد أمالي في الآية السابقة. فالأملية هي المنطوقة الواحدة، الآية الواحدة، في حين أن الأمالي جملة من المنطوقات أو الآيات. ويبدو أن كراسات محددة فيها أمليات، أي شروح وتفسيرات، كانت تسمى «أمالي» وتتداول كأدب ديني يحسبها بعضهم من الوحي، أو يتبعها له. ومن هذا نتج تقليد الأمالي في الثقافة العربية. فلدينا أمالي ثعلب، وأمالي الزجاجي الصغرى والكبرى، وأمالي أبي علي القالي، وشرحها لأبي عبيد البكري، وذيل أمالي القالي للقالي أيضاً، وصلة ذيل الأمالي له أيضاً، وأمالي الصولي، وأمالي السيد المرتضى المسماة بالغرر والدرر، وأمالي الشهاب الخفاجي.
* شاعر فلسطيني