ترجمة عصام زكرياوودي آلن (1935)، واحد من أكبر نجوم الكوميديا على مرّ التاريخ، مخرج ومؤلف وممثل سينمائي، له عشرات الأعمال منذ الستينيات حتى الآن. من أشهر أفلامه «آني هول» (1977) الذي حصل على أربع جوائز أوسكار لأفضل فيلم وإخراج وسيناريو مكتوب مباشرة للسينما، وأفضل ممثلة لدايان كيتون، و«مانهاتن» و«هانا وأخواتها» و«زهرة القاهرة القرمزية»، و«نقطة المباراة» و«منتصف الليل في باريس» وغيرها.
إلى جانب السينما، عمل آلن في بداية حياته كـ «ستاند أب كوميديان»، واشتهر بكتابة المقاطع والحوارات الكوميدية لأعمال الآخرين، وهو أيضاً عازف متمكّن للكلارينيت، وفوق ذلك كلّه كاتب قصصي مدهش لديه أربع مجموعات قصصية منشورة، وعدد كبير من المقالات القصصية التي نُشرت في صحف ومجلات من أهمها The New Yorker.
عُرف آلن بثقافته الرفيعة واطلاعه على كثير من أعمال الأدباء والفلاسفة القدامى والمحدثين، وهو دائماً ما يستخدم هذه الثقافة في أعماله، ضمن المحاكاة الساخرة والتهكّم، والإحالات الضمنية، كما أنها تدور غالباً في عالم المثقفين والعاملين في الثقافة. القصة المنشورة أدناه من مجموعة مختارات أدبية لوودي آلن ستنشر قريباً في كتاب.
جئت إلى شيكاغو للمرة الأولى خلال العشرينيات، وكان ذلك لحضور مباراة ملاكمة. كان بصحبتي ارنست هيمنغواي، وقد أقمنا في معسكر تدريب جاك دمبسي. كان هيمنغواي قد انتهى للتو من كتابة قصتين قصيرتين عن «ملاكمة المحترفين». ومع إنني وجرترود ستاين وجدنا إنهما جيدتان، إلا أننا اتفقنا على أنهما لا تزالان تحتاجان إلى عمل كثير. وقد مازحت هيمنغواي حول روايته المقبلة وضحكنا كثيراً، ثم ارتدينا قفازات الملاكمة وكسر أنفي.
خلال هذا الشتاء، قمنا، أنا وآليس توكلاس وبيكاسو، بتأجير فيلا في جنوب إيطاليا. كنت أعمل وقتذاك على رواية شعرت أنها ستكون حدثاً كبيراً في الأدب الأميركي، ولكن الطابعة كانت صغيرة جداً ولم أستطع الاستمرار فيها.
خلال الأمسيات، كنت وجرترود ستاين نذهب لاصطياد «الأنتيكات» من المحال الصغيرة، وأتذكر أنني سألتها ذات مرة عمّا إذا كانت تعتقد أنني يجب أن أصبح كاتباً، فقالت لي بطريقتها الملغزة التي نحبها جميعاً: «لا»، ففهمت أنها تقصد نعم وأخذت السفينة إلى إيطاليا في اليوم التالي. وقد ذكّرتني إيطاليا كثيراً بشيكاغو، خاصة فينيسيا، لأن المدينتين فيهما قناة وشوارع مرصعة بالتماثيل والكنائس التي صممها نحاتو عصر النهضة.
خلال هذا الشهر، ذهبنا لزيارة استديو بيكاسو في «أريس» الذي كان يُطلق عليه وقتها «روين» أو «زيورخ»، قبل أن يعيد تسميته الفرنسيون عام 1589 خلال حكم «لوي ذا فيج» (وهو ملك وغد كان سلوكه وضيعاً مع الجميع). بيكاسو كان وقتها في بداية مرحلته الزرقاء، ولكنني وجرترود ستاين مررنا لتناول القهوة معه، ولذلك بدأها متأخراً عشر دقائق. وقد استمرت هذه المرحلة أربع سنوات، ما يعني أن الدقائق العشر لم تفرق كثيراً.
بيكاسو كان رجلاً قصير القامة، له طريقة مضحكة في السير، حيث يضع قدماً أمام الأخرى إلى أن يقوم بما يسميه «خطوات». كنا نضحك على ملاحظاته المرحة، ولكن في بداية الثلاثينيات، مع صعود الفاشية، لم يعد سوى القليل لنضحك عليه. أنا وجرترود ستاين كنا نفحص أعمال بيكاسو الجديدة بعناية، وكان رأي جرترود ستاين أن «الفن، كل أنواع الفن، هو مجرد تعبير عن شيء ما». لكن بيكاسو رفض هذا الرأي وقال: «اتركوني وحدي. لقد كنت أتناول طعامي». وشعرت أن بيكاسو على حق. فقد كان يتناول طعامه.
استديو بيكاسو كان مختلفاً عن استديو ماتيس. كان في حالة فوضوية، على عكس استديو ماتيس الذي كان منظماً للغاية. الغريب أن العكس كان أيضاً صحيحاً. في أيلول (سبتمبر) من هذا العام، كلف ماتيس برسم لوحة رمزية، ولكن مع مرض زوجته لم يُكمل رسمها، وفي النهاية تم لصقها على الحائط.
أتذكر هذه الحوادث جيداً، لأنها سبقت الشتاء الذي قضيناه جميعاً في تلك الشقة الحقيرة شمال سويسرا، حيث كان المطر يسقط فجأة، ثم يتوقف فجأة.
كان الفنان التكعيبي الإسباني خوان غريس قد أقنع آليس توكلاس بأن تجلس أمامه ليرسمها في لوحة «طبيعة صامتة». وبمفهومه التجريدي عن رسم الأشياء، بدأ في تحطيم وجهها وجسدها ليصل به إلى مكوناته الهندسية الأساسية، إلى أن وصلت الشرطة واعتقلته. غريس كان قادماً من الريف الإسباني، وقد اعتادت جرترود ستاين أن تقول إنّ إسبانيّاً قحاً فقط يمكن أن يتصرف بهذه الطريقة، وكانت تعني أنّ شخصاً يجيد التحدث بالإسبانية، يجب أن يعود من حين لآخر لزيارة عائلته في إسبانيا. كانت أياماً رائعة حقاً. أتذكر مساء ذات يوم كنا جالسين في بار للمثليين في جنوب فرنسا وأقدامنا ترتاح فوق الفضلات، عندما قالت جرترود ستاين: «أشعر بالدوار». بيكاسو قهقه ضاحكاً على الجملة، وأنا وماتيس فهمنا إنها تحمل إيحاءً بضرورة الذهاب إلى إفريقيا. بعد سبعة أسابيع، التقينا هيمنغواي بالصدفة في كينيا. كان هيمنغواي قد اكتسب لوناً برونزياً وأطلق لحيته وبدأ في تطوير أسلوب نثره السهل المعروف عن العيون والشفاه. فهنا في هذه القارة السوداء المجهولة واجه هيمنغواي الشفاه المشقوقة آلاف المرات.
«كيف الحال يا إرنست؟» سألته؟ فانطلق في الحديث عن الموت والمغامرة، بطريقته التي لا يبارى فيها، وعندما استيقظت من نومي كان قد نصب مخيماً وجلس أمام نار كبيرة يشوي لنا كل أنواع مشهيات اللحوم، ومازحته حول لحيته الجديدة وضحكنا واحتسينا الكونياك ثم ارتدينا القفازات وكسر أنفي.
هذا العام ذهبت مرة أخرى إلى باريس للحديث مع مؤلف موسيقي أوروبي نحيف وعصبي له وجه معقوف وعينان سريعتا الحركة بشكل ملحوظ، سوف يصبح في يوم من الأيام ايغور سترافينسكي، ثم لاحقاً، سيصبح صديقه المقرب. وقد أقمت في بيت «مان» و«ستينج راي» وانضم إلينا سلفادور دالي على العشاء عدة مرات، وقرر دالي أن يلعب بطولة عرض لشخص واحد، وحقق العرض نجاحاً هائلاً حيث شاهده رجل واحد فعلاً، وكان الشتاء في فرنسا بهيجاً ولطيفاً.
وأتذكر أنه ذات ليلة، عاد سكوت فيتزجيرالد وزوجته إلى المنزل بعد حفل رأس العام. كنا في نيسان (أبريل). ولم يكونا قد تناولا شيئاً طوال الشهور الثلاثة الماضية سوى الشمبانيا، ولا يزالان يرتديان ملابس السهرة بالكامل، وكانا قد دخلا تحدياً قاما بموجبه بقيادة سيارتهما الليموزين عبر جرف طوله تسعين قدماً إلى البحر مباشرة.
كان هناك شيء حقيقي في الزوجين فيتزجيرالد، وهو أن قيمهما كانت أساسية. كانا متواضعين للغاية، وعندما أقنعهما غرانت وود لاحقاً بالوقوف لرسمهما في لوحة «أميركا القوطية»، أتذكر كم كانا سعيدين وفخورين. وطوال وقفتهما، كما أخبرتني زيلدا فيما بعد، كانت المذراة تقع من يد سكوت.
توطدت صداقتي بسكوت على مدار السنوات القليلة التالية، ومعظم أصدقائنا كانوا يعتقدون إنه اقتبس شخصية بطل آخر رواياته من شخصيتي، وإنني اقتبست حياتي من روايته السابقة، وبسبب ذلك وجدت نفسي في المحكمة أواجه دعوى سرقة أدبية رفعتها ضدي شخصية خيالية.
سكوت كانت لديه مشكلة كبيرة في الانضباط، ومع أنه كان يعشق زيلدا، إلا أننا اتفقنا أن لها تأثيراً سلبياً على عمله، ما قلص إنتاجه من كتابة رواية كل عام إلى مجرد كتابة وصفة أكلة سمك وبعض الفواصل.
أخيراً، في 1929، ذهبنا جميعاً إلى إسبانيا، حيث قام هيمنغواي بتقديمي إلى مانوليتي، الذي كان حساساً للغاية لدرجة التخنث، فقد كان يرتدي بناطيل من ذلك النوع الضيق الذي ترتديه البنات ويصل للركبة فقط. مانولتي كان فناناً عظيماً جداً جداً، ولو أنه لم يصبح مصارع ثيران، لكان بإمكانه أن يكون محاسباً شهيراً جداً. استمتعنا كثيراً في إسبانيا هذا العام، وسافرنا وكتبنا، واصطحبني هيمنغواي في رحلة لصيد سمك التونة ونجحت في صيد أربع علب، وضحكنا وسألتني آليس توكلاس عما إذا كنت أحب جرترود ستاين لأنني أهديت ديوان شعر لها، مع أنه كان من تأليف ت.س. اليوت، وقلت لها نعم أحبها ولكن الأمر لم ينجح لأنها أذكى مني بكثير، ووافقتني أليس توكلاس، ثم ارتدينا القفازات وقامت جرترود ستاين بكسر أنفي.

هوامش:
جاك دمبسي (1895-1983) ملاكم أميركي شهير، كان نجماً لما يعرف بـ «ملاكمة الجوائز»، أو الملاكمة من أجل المال، التي كانت ممنوعة وقتذاك، وكتب عنه هيمنغواي.
جرترود ستاين (1874-1946)، روائية وشاعرة وجامعة تحف فنية أميركية، هاجرت إلى فرنسا في بداية العشرينيات، وقد رسمها بيكاسو في إحدى لوحاته الشهيرة، ولها كتاب شهير بعنوان «بيكاسو، ماتيس وجرترود ستاين»
آليس توكلاس (1877-1967) كانت مساعدة جرترود ستاين وصديقتها لمعظم سنوات عمريهما.
خوان غريس (1887-1927) رسام من رواد التكعيبية، ولد في إسبانيا، ولكنه سافر إلى باريس وقضى حياته كلها في فرنسا.
مان ستينغراي Man Stingray ليس اسم شخص، ولكن اسم نوع غيتار كهربائي معروف، وألين يلعب باللفظ هنا، ويحوله إلى اسمي أخوين وهميين.
سكوت فيتزجيرالد (1896-1940)، روائي أميركي شهير، عُرف بالتمرد وحياة اللهو والتحرر، مؤلف روايتي «الجانب الآخر من الجنة» و«غاتسبي العظيم»، وزوجته زيلدا كانت أديبة أيضاً، ولهما قصة حب عاصفة ومعقدة.
غرانت وود (1891- 1942) رسام أميركي من أشهر أعماله لوحة «أميركا القوطية» التي تصور زوجين أمام بيتهما الريفي بطريقة مخيفة، يحمل فيها الزوج مذراة توزيع الفحم في المدفأة.
مانويل سانشيز، أو «مانوليتي» (1917-1947) مصارع ثيران إسباني شهير.