في مجموعتها القصصية «رقعة زرقاء» (دار نلسن ـ 2019 ـ لوحة الغلاف للفنان جميل ملاعب)، تعيد صفية سعادة إلى فن السرد رونقه، ليس فقط لأنّ قصّها تندرج تحت خانة الأدب الملتزم الموجّه فحسب، بل أيضاً لتمكّنها من أسلوبية سلسة مطواعة في أداء شكل لائق في موازاة محتوى نابض. همّ سعادة في هذه القصص التسع ها هنا في مجموعتها هو الكشف عمّا يعترض المرأة في الشرق من عوائق تحول دون نهضة المجتمع بأسره، فكأن المرأة صورة الأمّة.

ولا عجب في ذلك، فهي سليلة تراث انتفض وثار وانقلب إرثاً لا يُستهان به في إدخال مفاهيم حديثة إلى مجتمع بلاد الشام المترامي بين قرني الهلال الخصيب الممتد من غزّة على ساحل المتوسّط إلى البصرة على شطّ العرب. جدّها خليل سعادة (1858 – 1934) صاحب القاموس الطبي الذي طُرد من «أميركية بيروت» (الكلية السورية آنذاك) عام 1882 لاعتراضه على تحوّل الجامعة من التدريس بالعربية إلى الإنكليزية، ثم إكماله دراسة الطبّ في إسطنبول. كان قد أصدر في لندن عام 1898 «قيصر وكليوباترا» بالإنكليزية وعنونها فرعاً «قصة غرام تاريخية». وجاء من بعده ابنه انطون سعادة ( 1904 – 1949)، باعث النهضة القومية الاجتماعية في بلاد الشام، ومؤسّس الحزب السوري القومي الاجتماعي وواضع دستوره ليختطّ المسار نفسه في قصتيه «فاجعة حب» و«سيدة صيدنايا»، فرصد حركيّة المجتمع السوري في إطار القيم الموروثة في المجتمع الشرقي الأوسع والصراع الدائر بين قوى الخير والشرّ، والإضاءة على مفاهيم الحق والخير والجمال التي بسطها في أثره النفيس الصراع الفكري في الأدب السوري.
وها هي كريمته صفيّة كبرى بنات الزعيم إلى جانب أليسار وراغدة على خطى والدها في الإماطة عن الصراع نفسه والمفاهيم عينها. ففي قصّتها الأولى «عين الصفصاف»، تختزل سعادة، في ثلاث عشرة صفحة، واقع العائلة العربية في تأرجحها بين قطبي الهيمنة والتحرّر، فنحن هنا مع قصّة حب لم تتكلّل بالنجاح، فالزمان هو سحابة صيف 1958 الذي أسعد المحبيْن ثم فرّق بينهما في أجواء الصراع ذلك الصيف.
أسلوبية سلسة مطواعة في موازاة محتوى نابض


وفي القصص الثماني اللاحقة زواج لا يكتمل وحظﱞ عاثر، واكتشاف الفتاة في نقلتها من أهلها إلى زوجها إنما تسافر من عبودية إلى عبودية... إلى انقطاع الماء والكهرباء زمن الحرب الأهلية حين تتحول رقعة السماء الزرقاء المطلّة على د. سعادة إلى جحيم قذائف. خالتها التي جاءت من الأرجنتين في 1954 إلى دمشق لترعى كريمات الزعيم حتى 1971 حين غادرت من بيروت بعد قرابة عقدين، فيما أختها الأمينة الأولى جولييت المير في السجن، هي ديانا التي لم تقترن في سبيل رعاية الصبايا، فنالت حظّها من الغبن. ومع أنّ الحزب القومي منحها رتبة الأمانة، إلا أنها أمانة لا تُقارن بأمانتها لبنات مُطلق النهضة القومية الاجتماعية من عقالها... إلى اعتقال صفية في أعقاب انقلاب 1961 ــ 1962 بتهمة أنها بنت الزعيم في ثكنة عسكرية، فخرجت من السجن وهي لم تكمل الثامنة عشرة. عادت إلى جامعتها الأميركية إلى أيام الفقر والبؤس والسباحة والتنس وأفلام صالات بيروت حيث الرومانس، إلى كتابة أطروحة الدكتوراه ومرافقة المذياع والدنيا طوارئ، إلى الإبحار من صور إلى لارنكا هرباً من حمم الحرب الدائرة عندنا دورياً.
ها هي صفية تكمل الدورة السعادية عبر قرن من الزمن: من انتفاضة والدها على بلفور وسايكس بيكو وهو في البرازيل، إلى ثورتها على التخلّف والهيمنة، وهي انتفاضة وثورة واحدة، فلا انفصام.

* أكاديمي وباحث فلسطيني