تحاول سيسيل لابورد تعريف معنى «الدين» في السيستم الليبرالي الفلسفي، وهي تعرف أن الأمر ليس بالبساطة التي يبدو عليها. لكن رغم الأعمال الكثيرة عن الدين وموقعه في النظام الليبرالي، وعن العلاقة الندية بين «الحدثين» تاريخياً، منذ التقائهما وافتراقهما وحتى تقاطعهما حالياً، إلا أن «دين الليبرالية» الذي صدر عام 2017 يتّسم بأصالة حقيقية، بحيث يتفرد في فرضياته ومنطلقاته، وكذلك في خلاصاته. بصعوبة ومشقة تحاول أستاذة النظرية السياسية في «أوكسفورد» التمييز جيداً بين ما يعترف به هذا النظام على أنه جزء من الدين، وبين ما يستحق معاملة خاصة داخل النظام تبعاً لسمته الدينية. وبالقدر ذاته من الجدية، تحاول التأكد ممّا هو ليس دينياً، بينما يحظى بامتياز الطابع الديني.

في بحثها الكثيف الذي ينقسم إلى قسمين رئيسين، ومع أنها لا تعلن ذلك، تتمركز لابورد خلف نظرة محددة إلى النظام البطريركي والتفوق العرقي ودور الكنيسة الغربية، وهذا ما قد يحسبه النقاد في الماينستريم الغربي إشكالياً. لكنه ليس كذلك بالضرورة. ذلك أن معظم هؤلاء النقاد سيتمترس خلف هذه المحددات، بينما جلست لابورد خلفهم وساجلت في النظرية التي لعبت دوراً أساسياً في صياغة المحددات التي نتحدث عنها. وقبل أي شيء، وفي هذه المسألة تحديداً، تعرف أن الليبرالية يمكنها النفاذ من النقد، أو من النقد الديني تحديداً، كما تساجل نقاد الليبرالية أنفسهم، لأنهم يخلطون بين الأصل والتبرير، ولأن آفة الطموح الليبرالي لتعريف موقع الدين من الدولة سببها الفهم المنقوص بالأساس للدين. ومن دون أن تحاول الدفاع عن الدين، تحاول في الفصول الأولى تحديد كيفية «قياس الدين»، أو قياس حضوره وماهيته، وتنصرف إلى سلسلة مقارنات بين «المساواتية الليبرالية» وعدة عناصر.
من الإشكاليات الرئيسية التي تواجهها لابورد، المساواتية الليبرالية ومعقوليتها، التي تعد بالاستجابة للنقد الجدي للتعامل الليبرالي نفسه مع الدين. في الواقع، الأسطورة الليبرالية هي مجرد قصة عن الماضي لتسويغ الحالة الراهنة، تستخدم الدين لتساويه بالمتعصب. وقد انتبهت الباحثة إلى أن هذا المتعصب - الآخر يصير «الشرقي» و«المسلم»، بهدف التسليم بالفردانية والعلمانية والتعددية الغربية بوصفها نماذج كونية، وبهدف إخراج هذا الآخر من دائرة العالم. وقد أفادتها كثيراً في هذا الاطار دراسات بيتر دانشين وصبا محمود عن «التشابهات غير المتوقعة» في المرافعات المقدمة في كل من المحاكم المصرية الإسلامية ومحاكم أوروبية علمانية تدعو إلى مفاهيم متعلقة بالأمن العام. لاحظت هذه الدراسات أن التباين بين أوروبا العلمانية والسياقات الدينية غير الليبرالية وغير الغربية ليس هائلاً كما هو شائع. عملياً، تتشابه الدول الغربية والشرق أوسطية في مشروع علماني متشابه بنيوياً، حيث تشكّل الدولة ادعاءات الاختلاف الديني والمساواة وتمنحها قواماً على نحو واسع. ولهذا، يبقى تلخيص طلال أسد هو الأوضح: «الليبرالية ليست مبدأ حيادية الدولة تجاه الدين، بل إنها ترتكز إلى سيادة الدولة لتنظم وتراقب الحياة الدينية».
استفادت من دراسات بيتر دانشين وصبا محمود عن «التشابهات غير المتوقعة» في مرافعات المحاكم المصرية الإسلامية ومحاكم أوروبية علمانية


وفي دراستها لما تسميه «معضلة الإعفاءات»، والمتعلق بحدود إعفاء الديني في النظام السياسي الليبرالي، أشارت إلى ثلاث خطط رئيسية لعلاج هذه الإشكالية: إذابة الدين، دمج الدين في المجال العام، وتضييق الدين. وتقتضي الفكرة الأولى عملياً النظر إلى الدينية على أنها حق عام، حتى لغير المتدينين. سرعان ما تنتبه إلى أن منح الحقوق الخاصة للإعفاءات سيفاقم احتمالات التمييز والتعسف، وسيشكل هذا مدخلاً لفهم الفكرة الثانية، التي تفرد لها مساحة وافرة. وبعد المراجعة الطويلة، يتبيّن أن دمج الدين في المجال العام غير قابل للاستقرار، بسبب ارتكاز هذا الدمج على معيار واحد للمقارنة، بين ما هو ديني وما هو ليس دينياً. أما تضييق الدين، فليس أمراً سهلاً هو الآخر، نظراً إلى أن الأفراد يتصرفون بنزاهة عندما يكونون مخلصين لعلاقات المجتمع، سواء كانت ثقافية أم لغوية أم دينية ذات الأهمية المركزية لحياتهم.
هناك مسألة جوهرية تظهر في كل الفصول: اعتراف الدولة بدين رسمي وعدمه، ودور هذا الاعتراف بالعلاقة بين الليبرالية والدين. طبعاً ستعود لابورد في الجزء الثاني لتفكيك الدين، بعد حل معضلة حيادية الدولة: «ليس على الدولة أن تستولي على مفاهيم الناس للأخلاق الشخصية». ثم تعود لتسأل سؤالاً أساسياً: ما هو التصنيف الذي يشير إليه أي مفهوم محدد للحياة الخيرة أو ما يعطي القيمة للحياة؟ ذلك أنه إذا كان على الدولة أن تكون حيادية تجاه الدين، لأن الدين نظام من الأخلاقيات الشخصية، فهذا يعني أن الدولة ليس عليها أن تكون حيادية تجاه الدين عندما لا يكون كذلك. وهذا يتعارض بشدة مع القراءة التقليدية للدين في السيستم الليبرالي، التي تقول بخروج الدين من الحيّز العام، أو الحيّز السياسي الذي يستولي على الجزء الأكبر من الحيّز العام. تجب الاشارة إلى أنها عندما تقول دين الليبرالية، فهي تقصد المفهوم الذي تتصوره الليبرالية عن الدين، وهي تتَّكل في هذا كثيراً على تعريفات جون رولز الغنية عن التعريف، في النظرية الليبرالية، وتساجل هذه التعريفات أكثر مما تعرضها.
من منطلقات بحثها التي تحافظ عليها بين الخلاصات، العلاقة غير الثابتة بين الليبرالية الغربية والدين الغربي. وفي رفض آخر للاختزال، تعيد التذكير بأن اعتبار الدولة الليبرالية محايدة هو قول اختزالي وتالياً هو مضلل. لذلك اقترحت تحليل الدين وتفكيكه، رغم انطباعها بأن ثمة خلافاً واسعاً سيبقى على الحقوق التي يمكن للمتدينين وغير المتدينين امتلاكها في الدولة الليبرالية. في كثير من الأحيان، سيبدو البحث بمثابة دفاع عن الليبرالية ضد الليبراليين، وهجوم على حصة الدين في النظام الليبرالي. ولكنه سيبدو أيضاً هجوماً على الليبرالية نفسها كمسؤولة عن موقع الدين فيها. ما تتأكد منه سيسيل لابورد هو أن ثمة تنوعاً في عدالة علاقات الدولة – الدين، أكثر مما يدرك الليبراليون الغربيون أنفسهم. وإذ تدعو إلى مزيد من الأسئلة العلائقية في ختام بحثها، تفترض أنها ردّت على المهتمين بتصنيف الليبرالية بحد ذاتها، كأيديولوجيا شاملة للتقدميين الغربيين، أي طائفة مكتملة بذاتها ولذاتها، واسمها «دين الليبرالية».