دوّخ غموض الآية 37 من سورة الرحمن (فإذا انشقتِ السماء فكانت وردةً كالدِّهان) الجميع قديماً وحديثاً. فلم يكن ممكناً الوصول إلى اتفاق على معنى جملة «وردةً كالدِّهان» فيها. أما الشعراء والأدباء الحديثون، فقد كان يعجبهم أن تكون السماء وردة. فهذا بالنسبة إليهم تشبيه منعش، يكاد يكون حديثاً. لكنّ القدماء تاهوا وتوّهونا بشأن الوردة وسمائها. وخذ هذا المختصر المفيد من القرطبي:«قوله تعالى: فإذا انشقت السماء: أي انصدعت يوم القيامة. فكانت وردة كالدهان: الدهان: الدهن، عن مجاهد والضحاك وغيرهما. والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن، والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى فكانت حمراء. وقيل: المعنى: تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها. وقيل: الدهان الجلد الأحمر الصرف، ذكره أبو عبيد والفراء. أي تصير السماء حمراء كالأديم لشدة حر النار... وقال الفراء: أراد الفرس الوردية، تكون في الربيع وردة [= وردية] إلى الصفرة، فإذا اشتد البرد كانت وردة حمراء، فإذا كان بعد ذلك كانت وردة إلى الغبرة، فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل. وقال الحسن: كالدهان أي كصبّ الدهن، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً. وقال زيد بن أسلم: المعنى أنها تصير كعكر الزيت، وقيل: المعنى أنها تمر وتجيء... وقال قتادة: إنها اليوم خضراء وسيكون لها لون أحمر» (تفسير القرطبي). يضيف الطبري على هذا نقلاً عن آخرين: «معناه كالدهن صافية الحمرة مشرقة... كالدّهانِ: يعني: خالصة. وقال آخرون: عني بذلك: فكانت وردة كالأديم [= الجلد]» (تفسير الطبري).
وكما نرى، فليس هناك اتفاق. لكن الاتجاه الأغلب أن الورد في الآية يعني اللون الوردي، وأن الدهان هو الدهن. وهكذا فالسماء حين تنشق تصبح بلون وردي كالدهان، أي الدهن - الزيت.
الإله شو يسند السماء المرصَّعة بالنجوم كي يفصل بينها وبين الأرض

لكنني أود أن أخالف الجميع بشأن هذه الآية الملغزة. وفرضيتي تقوم على أن الإبهام في الآية نبع من تصحيف وقع في كلمة «وردة» فقط. فالأصل أننا مع «وَذْرَة» لا «وردة». أي أنه جرت خطأً عملية قلب، حيث قرئت الذال راء والراء ذالاً. وبما أن الذال لم تكون منقوطة يومها، فقد قرئت دالاً. وهكذا حصلنا على «وردة» بدل «وذرة». وليس خافياً على أحد أن «الذال والدال والراء» حروف متشابهة جداً أصلاً، وأن احتمال التباسها في الكتابة اليدوية أمر وارد دوماً. وقد حصل مثل هذا الالتباس مرات عديدة جداً في تاريخ الكتابة العربية اليدوية.
وجذر «وذر» العربي يعطي معنى التقطيع والجرح، بل والشق أيضاً:
«وَذَرَه وَذْراً: قَطَعَه. والوَذْرُ: بَضْعُ اللحم... ووَذَّرْتُ اللحم تَوْذِيراً: قطعته، وكذلك «وذرتُ» الجُرْح: إذا شرطته. والوَذْرَتانِ: الشَّفَتانِ؛ عن أَبي عبيدة؛ قال أَبو حاتم: وقد غلط: إِنما الوَذْرَتان القطعتان من اللحم فشبهت الشفتان بهما» (لسان العرب).
وتسمية الشفتين بالذرتين أمر حاسم لفهم هذه الآية. إذ إنهما تدعيان الشفتان بالوذرتين لأنهما فلقتان وقطعتان ووذرتان. وهذا يعني أن الفم شُق، أو شرط، في الوجه فانقسم إلى شقين، قطعتين، أي وذرتين، ابتعدت إحداهما عن الأخرى: وذرة عليا وذرة سفلى. شَق الفم فصل الفم إلى وذرتين كانت موصولتين. ومن هذا أيضاً أن بظر المرأة يسمى الوذرة: «الوَذَرَةُ بُظارةُ المرأَة» (لسان العرب). فهو موذور أي مشقوق إلى شقين وقطعتين. وهذا يعني أن أبا حاتم هو المخطئ في المقتبس أعلاه. فالوذرة ليست قطعة اللحم فقط، بل القطعة المفصولة عن قطعة غيرها، أيّاً كانت. فكل وذر شق وشرط وقطع إلى قطعتين. انطلاقاً من هذا، لا يمكن فهم الآية من دون فهم أمر «الشّق» الذي تبتدئ به الآية: «فإذا انشقت السماء». فقد كانت السماء موصولة بشيء آخر، فشقت، وشرطت، وصارت وذرة وحدها، وصار الشيء الآخر وذرة مقابلة. الشق - الوذر ينتج «وذرة»، أي قطعة، وليس «وردة». وذا يعني أن السماء لم تنشق هي ذاتها، بل انشقت عن شيء آخر، وصارت كتلة وحدها. وأظن أن افتراض أن السماء هي التي انشقت هو ما زاد من غموض الآية. الشق هنا يفترض وجود قطعتين افترقتا عن بعضهما، وصارت كل منهما وذرة. بذا، فعلينا أن نبحث عن الوذرة الأخرى المقابلة للوذرة السماوية. هنا مربط الفرس.
ولكي نجد الوذرة المقابلة، علينا في ما أفترض أن نذهب إلى آية قرآنية أخرى في سورة الأنبياء: «أَولم يرَ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رَتْقاً ففتقناهما» (الأنبياء 30). وقد اختلف حول «الرتق» و«الفتق» في الآية. لكن من الواضح أن الكلمتين تحملان معنىً متعاكساً. فالرتق هو اللأم والوصل، في حين أن الفتق هو الشق والفصل. بذا، فقد كانت السماء والأرض في الماضي رتقاً، أي قطعة واحدة موصولة، ثم جرى فتق هذه القطعة إلى قطعتين فصلتا عن بعضهما. صارت كل واحدة منهما قطعة وحدها. أو قل صارت كل واحدة وذرة وحدها. السماء قطعة، والأرض قطعة مقابلة. وخذ ما يقوله النبيه بن عاشور عن هذا الأمر: «ثم هذا الاحتمال يجوز أن يكون على معنى الجملة: أي كانت السماوات والأرض رتقاً واحداً، أي كانتا كتلة واحدة ثم انفصلت السماوات عن الأرض» (محمد الطاهر بن عشور، التحرير والتنوير).
السماء والأرض كانتا في الأصل قطعة واحدة، ثم جرى شقهما، وهذا هو جوهر المعتقدات القديمة في المنطقة


إذاً، يبدو أن السماء والأرض كانتا في الأصل قطعة واحدة، نسيجاً واحداً، ثم جرى فصلهما، أو شقهما، عن بعضهما، وصارت كل واحدة منهما قطعة وحدها، أو وذرة وحدها. وهذا في الحقيقة جوهر المعتقدات القديمة في المنطقة. فعند المصريين، مثلاً، كانت السماء «نوت» والأرض «جيب» ملتصقتين، أي كانتا قطعة واحدة، فجاء الإله «شو»، إله الهواء والضياء، ففصلهما بيديه عن بعضهما. لذا، يصور هذا الإله وهو يرفع السماء بيديه كي يمنعها من السقوط والالتصاق بالأرض من جديد.
إذا صحّ هذا، فيجب أن نعرّج على آية قرآنية أخرى لنقول إن الوذر هو الفطر أيضاً، وأنهما معاً يعنيان الشق والفصل كذلك. فقد جاء في سورة فاطر: «الحمد لله فاطر السماوات والأرض» (سورة فاطر: 1). وقد افترضت الغالبية أن الفطر هنا يعني الخلق. بذا ففاطر السماوت والأرض هو خالقهما. وهذا يعني أن الفطر هو: الخلق والإيجاد والإبداع. لكنني أختلف مع هذا بشدة. فالفطر ليس الإبداع والخلق، بل التصرف في شيء موجود من قبل. إنه الشق وليس الخلق: «فطر الشيء: شقه» (لسان العرب). بذا، فالآية تقول إن الله فاطر السموات والأرض، اي شاقهما عن بعضهما، أي فاصلهما، أو فاتقهما، عن بعضهما.وبناءً على هذا، يجب فهم حديث ابن عباس مع الأعرابي: «ما كنت أَدري ما فاطر السموات والأَرض حتى أَتاني أَعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أَحدهما: أَنا فَطَرْتُها: أَي أَنا ابتدأْت حَفْرها» (لسان العرب). والحق أن الفطر هنا ليس الخلق بالابتداء، بل الشق والحفر. فالأرض تكون ملتئمة ملمومة فيجري شقها وفصلها عن بعضها بحُفرة البئر. بذا فجملة «أنا فطرتها» تعني «أنا شققتها» وليس أنا خلقتها وجعلتها وابتدأتها.
انطلاقاً من هذا، يصح لنا أن نقول إن الوذرة الأخرى المقابلة لوذرة السماء في الآية التي نعالجها يجب أن تكون هي الأرض. السماء وذرة، والأرض وذرة مقابلة أخرى، كما لو أنهما شفتان فصلتا وشقتا. وإذ وصلنا إلى هنا، فسيكون سهلاً علينا حل مشكلة «الدهان» الغامضة. ذلك أن غموض الدهان كان ينبع من الغموض الذي قبله. وما دام قد اتضح أمر هذا الغموض، فقد صار ممكناً حلّ أمر الدهان. ويبدو لي أن الدهان في الآية هو الجلد، والجلد الأملس على وجه الخصوص، وليس الجلد الأحمر كما افترض بعض المفسرين: «الدِّهان: الجلد الأَحمر، وقيل: الأَملس» (لسان العرب). الملاسة هنا هي الفكرة. وهذا استنتاج منطقي في ما أرى. فإذا نظرت إلى الوذرتين المنفصلتين، السماء والأرض، فستفطن فوراً إلى أن التناقض بينهما يتمثل بطابع جلدهما: فالسماء ملساء تماماً، في حين أن الأرض جعدة مليئة بالنتوء. هذا هو الفارق إذاً: لدينا وذرة ملساء ووذرة جعدة خشنة.
ويؤيد الشعر العربي أن الدهان هو الملاسة: «قال مسكين الدارمي:
ومُخاصـمِ قـاومْتُ فـي كَـبَدٍ
مثل الدِّهانِ فكان لي العُذْرُ
يعني أنه قاوم هذا المخاصم في مكان يزلق عنه من قام به، فثبت هو وزلق خصمه، والعذر، ههنا: النجح» (ابن سيده، المحكم). وهكذا حارب الرجل خصمه في مكان زلق كالجلد الأملس، لكنه تغلب عليه رغم ذلك.
إذاً، فالسماء حين تنشق تكون «وذرة كالدهان»، أي ملساء مثل الجلد الأملس.
عليه، ففي يوم القيامة، يبدو أن السماء والأرض ستكونان ملتصقتين، ثم ستفلقان إلى وذرتين كما حدث في بدء الكون. ذلك أن يوم القيامة هو موت عالم قديم وبدء عالم آخر جديد غيره.
في النهاية، إن البحث عن تصحيفات القرآن وكشفها هو التطبيق الأمثل لقول الله: «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون». فالله يسخرنا نحن لكشف كل مشكلة في الرسم الكتابي للذكر القرآني كي يحفظ هذا الذكر، وكي يوضح أصله الصحيح.
* شاعر فلسطيني