ماذا لو عاد الشهداء اليوم؟ كنت قد طرحت هذا السؤال على الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار (1936-2010) قبل سنوات. ضحك صاحب «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» من السؤال، وأجاب على الفور: «سيندهشون قليلاً، ثم يشرعون فى البزنسة». لخصت الإجابة ــ رغم ما فيها من سخرية مريرة ــ مصير حركات التحرر الوطني، التي أدّت دوراً نضالياً في تحرير بلدنها من الاستعمار الخارجي، لكنها تحولت ــ هي نفسها ــ بمرور الوقت إلى استعمار داخلي، لم يفِ بما وعد، لا رفاهية للشعوب، ولا حريات ولا ديمقراطية. مثلما حدث فى ليبيا والعراق ومصر، حدث في الجزائر أيضاً. تحول أنبياء التحرر الوطني إلى مجرد واجهات للاستعمار القديم، وشرعوا في «البزنسة، لتعويض سنوات النضال» كما قال وطار.«الجزائر قارة وليست مجرد دولة» هكذا يعتقد الأصدقاء هناك، لا يمكن الإحاطة بها أو بثقافتها المتعددة والثرية من زيارات عابرة، هي لا تمنح نفسها للعابرين، الذين جاؤوا إليها بتصورات مسبقة. يسمونها المدينة البيضاء، ويلقبونها بجزائر البهجة. في زيارة سابقة للمدينة، سألت: هل يشعر أهل مدينة البهجة بالبهجة؟ حكى صديق أن الشباب الجزائريين يذهبون إلى الموانئ، وينامون على الأرصفة لتهريبهم إلى المراكب الراسية. وعادة لا يعرفون إلى أين تتجه هذه المراكب. وأضاف: «منذ أسابيع، كانت مصيبة على بعض الشباب الذين دفعوا كل ما يملكون لكي يجري تهريبهم، ولكنهم فوجئوا بأنّ المركب يتجه من ميناء جزائري إلى آخر أيضاً جزائري»! ضحكنا، يومها. لكن لم يكن ذلك مدعاة للضحك، بقدر ما هو مدعاة للحزن الشديد. عاشت المدينة سنوات طويلة من الخراب، سنوات العشرية الحمراء المرعبة التي لم تترك شيئاً إلا وأتت عليه وجعلته عرضة إما للموت أو للذبح أو التخريب. لكن كان هناك خراب آخر، هو الفساد، والسلطوية... وهو ما تكشف عنه الحكايات الكثيرة المتداولة هناك.
ثمة مفاتيح عديدة لفهم الجزائر، وشعبها. ربما كانت موسيقى الراي أحدها. لا يخلو منزل من شريط هنا أو هناك يضم موسيقى لأهم المطربين هناك. وفي كل المحال التي تبيع شرائط الكاسيت والوسائط الحديثة، يتصدر الراي قوائم المبيعات، ويعتبره الشباب متنفساً يعبّر عن همومهم ومشاكلهم الاجتماعية المتعلقة بالبطالة، والسكن، والحب والهجرة، لأن كلمة «الراي» باللهجة الجزائرية تعني «أنا حرّ في تصرفي». رغم ذلك، هو فنّ تراه المؤسسة الرسمية لا أخلاقياً، صادماً للذوق، بل صنيعة استعمارية لتدمير أخلاق الشعب!
منذ سنوات، كان الشاب بعزيز، أحد مطربي الراي، ضيفاً على أحد البرامج التلفزيونية. لم يسأله المخرج عمّا سيغنيه. الوقت لا يسمح، دقائق قليلة وستدور كاميرات التلفزيون الرسمي ليغني أحد نجوم الراي إحدى أغانيه. بعزيز قال إنّه سيقدم مفاجأة إلى المستمعين، وما إن بدأ التصوير، حتى تحولت المفاجأة إلى قنبلة. اختار بعزيز أن يغني أغنية جديدة تماماً له هي «الجنرالات». لم يترك أى نقيصة إلا وألصقها بهم، ولم يستطع أحد إيقافه قبل أن ينتهي. كانت القصة أكبر صفعة تتعرض لها المؤسسة الرسمية الجزائرية. يسمّون التلفزيون الجزائري هناك «اليتيمة»، لأنه لا يضم سوى قناة واحدة. وبسبب هذا الموقف، منع المطرب من دخول مبنى «اليتيمة»، وظل الغضب ضد هذا النوع من الموسيقى قائماً من المؤسسة الرسمية!
الروائي بشير مفتي يرى أن الراي أول حركة احتجاج وتمرد على السائد، بدأت فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. يقول مفتي إنّه في تلك الفترة، كان الأدب الموسيقي والغناء موظفاً لخدمة الاشتراكية. الشعراء عندما يصفون عيون حبيباتهم يقولون: «عيون حبيبتي مزرعة مسيرة ذاتياً»، وكان المطرب المكرس إعلامياً في السبعينيات رابح درياسه لا يغنى إلا للاشتراكية، وكانت أشهر أغنياته في تلك الفترة «خذ المفتاح يا فلاح» التي تشيد بالقرى الفلاحية التي بناها هواري بومدين للفلاحين في إطار الثورة الزراعية. في الجانب الآخر، كانت المدائح الدينية المبشرة بالإسلام. جاء الراي ليتمرد على هذه التقاليد ولا يعترف بالأخلاق السائدة. لذا، كان مصير أبرز ممثليه القتل في حوادث غامضة، مثل ما جرى لمعطوب الوناس، أو الهجرة إلى فرنسا مثل آيات منقلات. من هذه الحكايات يمكننا ربما الإجابة عن سؤال ثورة الجزائر، هي معركة من أجل العدل والحرية. معركة مشروعة، قد يتحقق بعض ما يطالبون به، وقد لا يتحقق، لكن ليس مهماً ما ستنتهي به. المهم في قدرة الشعب أن يتحرك، أن يصبح طرفاً في المعادلة، أن يمدّ لسانه للطغاة. ثورات تذكر الشعوب بأنّ حركتها قوية، أنها ليست في حاجة إلى وصاية. تحية إلى الجزائ وثورة شعبها!